الثلاثاء، 24 ديسمبر 2013

دلـيـل الـدراسـة الـمـيدانيـة في الجـغـرافـيا

الجغرافيا ليست معلومات مسطرة عن الدول والبلدان ، وهي ليست خرائط تضاف الى الكتب لزيادة حجمها ولتضفي عليها لقبها ، انها موجودة معنا حيث نعيش ، في البيت و الـمحلة و القرية والـمدينة  والبلد والعالم والكون . إنها الـهواء والـماء والأرض والإنسان و النجوم . إنها ما يفكر به الجميع سواء اكانوا مـختصين بالجغرافيا ام لا . فجميع قراراتنا اليومية ذات بعد مكاني ، والجغرافيا هي دراسة التباين الـمكاني لكل متطلبات الحياة .
          لقد بدأت الجغرافيا وجودها كمعرفة وكعلم في الـميدان (ولازالت) ، ولكن عشاق الغرف الـمغلقة قتلوا أعـز شيء فيها ، (جوهرها العملي التطبيقي) ، بـجعلها حبيسة الجدران  ، سامـحهم الله على فعلتهم هذه . والأدهى والأمر ان اجيالآ قد تعودت على ظلمة الغرف ولم تـخرج الى الـميدان لترى الجغرافيا في وضح النهار في الجوار . لقد جعلت السفرات العلمية  للتنزه والنظر الى الطبيعة دون استجلاء معانيها الجغرافية . تعرفت على الجغرافيا في القاعة وتـجاهلتها خارجها نتيجة قصور في التوجيه والتدريب الـمنهجي و العلمي .
        ان تدريس الجغرافيا بصيغة معلومات تـحفظ ذهنيا دون تلمسها ميدانيا  لا يفقدها قيمتها كعلم فقط ، بل يـجعلها عقيمة لا حاجة لاضافتها الى الـمواد الدراسية لأنها مضيعة لوقت التلاميذ و الطلبة وضياع جهد الـمعلمين والـمدرسين . وفي الواقع ان هذه الطريقة من التعليم شائعة في الدول النامية فقط ، اما في الدول الـمتقدمة فيعد التدريب العملي و الـميداني جزء اساسيا من البرنامج التعليمي ومن صلب متطلبات نيل شهادة الدراسة الثانوية . ونظرا لجهل العديد من حملة الشهادات العلمية العليا  ، (في الدول النامية) ، اساسيات العمل الـميداني ، لذا  فقد جاء تدريس الجغرافيا في جامعاتها امتدادا لسياقات تعليمها في الثانوية . تعليم مقصور  وغير ناجز ، وحيث لا يليق باستاذ الجامعة ان يـخـرج الى الحقل وتتسخ ملابسه وتقل هـيبـته .
          ويزداد الأمر سوء  بكتابة بـحوث معمقة لنيل شهادة عليا يشار فيها الى قيام الطالب بدراسة ميدانية ، وعند مناقشته تتضح الاخطاء الفادحة التي وقع بها جراء الجهل في قواعدها وأسـسها ، واتباعه اسهل الطرق في تسطير معلومات يصعب التحقق من صحتها و دقتها ، مـما يؤدي الى الغاء  أية فائدة مرجوة من دراسته . فالبدايات خاطئة ، والـمـدخلات غير صحيحة وبالتالي النتائج مرفوضة بكل ضوابط مناهج البحث العلمي . ولكن الشهادة تـمنح ، ويقوم حاملها بالتدريس في الجامعة وفق السياقات الخاطئة التي تعودها ، وقد يـحصل على موقع قيادي لسبب ما ، وحينها يكون سادنا على (باب العلم) الذي لا يعرف منه الا النزر اليسير .
        لقد جاء هذا الـمؤلف نتيجة الـمعايشة اليومية للمشكلة الـمشار اليها في اعلاه ، انه مقترح دليل قد  يساعد الـمعلمين والـمدرسين والباحثين في انـجاز الاعمال الجغرافية من تعليم و بـحث بصورة افضل من الحال الراهن . ومـما يؤكد ان العالم الآخر قد سبقنا في هذا الـمضمار وتـجاوز الـمرحلة التي لازلنا نتخبط فيها ،  هو قدم الـمصادر الـمعتمدة لندرة الكتابات الحديثة في موضوع الدراسات الـميدانية  .
        ركزت الكتابات الحديثة  على تقنيات التحسس النائي وليس التلمس الـميداني ، و لكي نتحسـس عـلينـا أن نتلمـس أولآ . وقد لا يعرف البعض ، ان فهم نتائج التحسـس النائي مبني على الـملاحظة والدراسة الـميدانية . فكيف نتحسـس عن بعد الارض التي نعيش عليها قبل أن نتلمسها ونلاحظها عن قرب ؟ انهما وجها عملة واحدة هدفها استيعاب ما يـجري في البيئة التي نعيش فيها . ولقد عادت دورة العلم الى الدراسة الـميدانية التي لم نبدأها بعد .
          ومن أجل تـحقيق نقلة نوعية في فهم الجغرافيا وتدريسها بالصورة العلمية الصحيحة ، من الضروري ان تكون البداية  : دراسة جغرافية الـمدرسة نفسها ، موقعها ، مـخططها ، توزيع سكن طلبتها ، مهن ذويهم ، مصدر الـماء ، ...... الخ (كل ما يتعلق بالبيئة الـمحلية طبيعيا وبشريا لجلب انتباه التلميذ اليها والى العلاقة بينها واهمية كل منها) . وأن لا نتطير عندما تتسخ الكتب من تراب الـمدرسة والـمحلة اثناء الربط العملي بين الـمعلومات الـمنضدة في الكتب والواقع الـمعاش . فالعلم لا يرتبط  بالياقات البيض ، بل بالعمل والتفكير الـمنهجي الـمنظم .
          أرى من واجبي ، كجغرافي يعاني من نقص في الـمكتبة العربية ، وخلل في مناهج تدريس الجغرافيا ، ان اقدم مقترحات لتطوير واقع الجغرافيا ، علما ومنهجا دراسيا .
1 - الـمـقـترح الأول : تضع العديد من اقسام الجغرافيا في الجامعات  مادة للتدريس تـحت عنوان "أقليم خاص"  كموضوع لطلبة الدراسات العليا او كموضوع اختياري لطلبة الشرف . وبـما ان لكل جامعة اقليمها الوظيفي الخاص بها  ، لذا توجب عليها دراسته بعمق و تفصيل .
 الـمقترح  ان يكون موضوع الاقليم الخاص مرتبطا بالاقليم الوظيفي للجامعة ويشترك في تدريسه اكثر من استاذ واحد ، كل ضمن اختصاصه . وبالتاكيد فان الجانب العملي والدراسة الحقلية هما القاسم الـمشترك بين جميع فروع الجغرافيا لكي يفهم الطلبة الصلة الحقيقية بين العوامل البشرية والطبيعية  في الاقليم . او بعبارة أدق ، استيعاب جوهر الجغرافيا وفلسفتها من خلال دراسة الاقليم الخاص . من الضروري عند اقرار تدريس الـموضوع ، وضع خطة للدراسة الـميدانية تتوافق مع مفردات الـمنهج ، وان يكون الجانبين النظري والعملي متلازمين بدون فاصلة زمنية تؤثر على تكاملهما  والهدف من تدريس الـموضوع .
2 - الـمقـترح الثانـي : تطويرا للمقترح الأول ، واستكمالآ للفائدة من تطبيقه ، وبعد تدريس الاقليم الخاص لسنتين على الاقل ، من الضروري تأليف كتاب بعنوان " الجغرافيا العملية لأقليم .....   Practical Geography for Region " . يشمل هذا الكتاب تفاصيل العمل الـميداني و متطلباته مع مستلزمات التوضيح من مـخططات ورسوم وصور وخرائط . ومن الضروري جدا ان يضم مـجموعة من الاسئلة مع كل مستلزم توضيحي ، وتـمارين عملية في نهاية كل فصل ، وايضا مقترحات لدراسات تكميلية مع تـحديد مواقعها . الـهدف توفير مرجع علمي عن الاقليم ، ودليل عمل لـمدرسي الجغرافيا في ثانويات الاقليم ليقوموا بدورهم بتدريب طلبتهم على دراسة الجغرافيا ميدانيا . و بتغطية جميع تراب البلد بدراسات جغرافية عملية ميدانية تطبيقية  ، عندئذ تعاد كتابة جغرافية القطر بصيغة جديدة تكون  اكثر فائدة من مـجرد معلومات منضدة للحفظ والاستظهار في الامتحان  . في هذه الحالة تكون الشهادة في الجغرافيا ذات قيمة و معنى وطني ، ويكون لـموضوعها صدى وقبول في نفوس الجميع .
3 - الـمقـترح الثالث : وضع مرشد او دليل عمل لـمعلمي و مدرسي الـمواد الاجتماعية في الثانويات يساعدهم في القيام بـممارسات عملية مـيدانية تطبيقية لـما ياخذه طلبتهم في الـمنهج الدراسي ولكل سنة من سنوات الدراسة الثانوية . وفي الوقت نفسه من الضروري ان توفر مديريات التربية مستلزمات الدراسة الـميدانية ، بـما فيها اماكن الاقامة (مـخيمات كشفية و مراكز شباب ومراكز خدمة اجتماعية في الريف) ، وخرائط وادوات قياس واجهزة مـختبرية وغيرها . وان يقوم الـمشرفون التنربويون بـمتابعة التنفـيذ مـباشـرة .
4 - الـمقـترح الـرابع :  أن تضم كتب الجغرافيا الـمنهجية (مدن ، جيمورفولوجيا ، ... الخ) تفاصيل عن أسـس الدراسة الـميدانية ذات العـلاقة و مستلزماتها . وأن تتحدد مفردات العمل الـميداني وبرمـجته لكل موضوع ومادة منهجية في بداية كل فصل دراسي ، واعطائها الاهمية التي تستحقها . يؤشر التقصير  من عدمه في الجانب العملي الـميداني في هذه الـمواد  درجة جدية التدريسي في تدريب طلبته على الربط بين النظرية والتطبيق ، بين الواقع الـمحلي والتنظيرات الـمستوردة  ، ويعتمد هذا في التقييم السنوي لاداءه الوظيفي .
5  - الـمقـترح الخامـس :  تعمد الكثير من اقسام الجغرافيا الى توجيه طلبتها لكتابة بـحوث لنيل الشهادة الجامعية الاولية . وهذه مـمـارسة عملية مـمتازة تربط بين مـجموعة من الـموضوعات التي درسها الطالب ، مثل : الاحصاء والتقنيات الكمية ، مناهج البحث العلمي ، موضوع البحث . وتاتي هنا اهمية ان تكون الدراسة ذات طابع مـحلي  بـمـمارسة ميدانية صحيحة  وفق السياقات الاصولية . ويفضل ان تكون للقسم العلمي خطة بـحثية متكاملة  يقوم التدريسيون بتنفيذها من خلال مشاريع بـحوث طلبة السنة النهائية . أي ، وضع برنامج علمي لـمسح ميداني شامل للاقليم الوظيفي للقسم والجامعة .
6 - الـمقترح السادس :  من الضروري جدا ان يكون في الـمكتبة الشخصية لكل جغرافي (بغض النظر عن الـمهنة التي يـمارسها : تعليم ، تـخطيط ، .... الخ) كتاب يرجع اليه حيثما يـحتاج الى مـمارسـة عـملية لاختصاصه . والكتاب الراهن لا يفي بالغرض ، لأسباب كثيرة ، الـمطلوب ان يشمل الكتاب الـمقترح الـموضوعات الاتية :-
(1) مـبادىء الـمساحة العملية البسيطة ،
(2) قراءة مـختلف انواع الخرائط وسبل تـحديث معلوماتها ،
(3) مبادىء الجغرافيا العملية ،
(4) مبادىء دراسة مظاهر سطح الارض ،
(5) تقنيات مسح استعمالات الارض الحضرية والريفية ،
(6) الأسـس العلمية لأخذ العينات و معالجتها ،
(7) تقنيات تـحليل التربة ميدانيا ومـختبريا ،
(8) التقنيات الكارتوكرافية لـمعالجة البيانات الـمختلفة (سكان ، نشاط اقتصادي ، .... الخ) ،
(9) تقنيات تقييم كفاءة الخدمات العامة ، شبكة النقل وغيرها ،
(10) تقنيات تـحليل الانـماط الـمكانية لتوزيع الـمستقرات البشرية ,
(11) الربط بين التحسس النائي والتلمس الـميداني والاستفادة من جميع التقنيات ذات العلاقة        لفهم مايـجري على سطح الارض ومظهرها الطبيعي والذي صنعه الانسان .
        من الضروري ان يشترك في تاليف هذا الـمرجع الـمهم عدد من الـمختصين في فروع الجغرافيا الـمختلفة ، وان يكون غنيا بكل ما يوضح خطوات العمل واجراءاته و مستلزماته . وليكن تـحت عنوان : موسوعة الدراسة الـميدانية في الجغرافيا ، ولتتحمل الجامعة العربية ، امانة مـجلس الجامعات العربية ، اتـحاد الجغرافيين العرب ، منظمة التربية والعلوم ، أو أية مؤسـسـة تعتقد ان من واجبها الوطني والقومي والعلمي اصدار مثل هذا  الـمؤلف .
7 - الـمقـترح السابع :  اضافة مـادة دراسية تـحت عنوان " الجغرافيا العملية والـميدانية " تدرس فيها مـفردات الكتاب الـمشار اليه في الـمقترح السابق . وفي حالة وجود الكتاب فانه يعتمد منهجيا لهذه الـمادة . ومن الـمهم جـدا أن لا يبقى تدريس ماهو ميداني حبيس القاعة بل ان يـخـرج الى مكانه الاصلي ، الى حيث ينتمي ويترعرع ، الى حيث يتنفس الطلبة الصعداء بعيدا عن رائحة الجدران الـمقرفة ، الى حيث يتعلمون بانفسهم دون اعطائهم جرعات (العلم) بالـملعقة كدواء  غير مـستسـاغ الطعم و الرائحة  .
           بتوفر مراجع عن الدراسة الـميدانية في الـمكتبات ، يكون لزاما على الباحثين اعتماد الاسـس العلمية الصحيحة في دراساتهم وبـحوثهم ، وتصبح الفائدة مـمكنة من الكم الهائل من البحوث والدراسات  لتوفر عناصر الثقة في نتائجها . وبتدريب طلبة الجامعات على تقنيات الدراسة الـميدانية ، وتوفير مستلزمات القيام بها ، يصبح حامل الشهادة الجامعية الاولية في الجغرافيا مؤهلآ لخدمة بلده بصورة صحيحة من خلال اختصاصه ، وتكون البيئة التي يعمل فيها مـختبره و الاطلس الذي يعتمده في حياته الـمهنية و اليومية . في هذه الحالة تزداد احتمالات وضع نظريات علمية من الواقع ولا حاجة لاستيرادها ، ويكون للتعلم لذة و راغبين ، ويتداعى الخوف من الامتحان ، وتقل احتمالات الغش فيه . التعود على الغش اخطر الامراض الاجتماعية التي يتعلمها الابناء من الـمدرسة . فقد اتـجـه الطلبة الى الغش لاجبارهم على حفظ معلومات لا يفقهون كنهها ، بينما في الـميدان يكتسبون الـمعرفة ذاتيا ، لذا يعتزوا  ويتمسكوا بها ، لقد اخذوها ولم تعط لهم . فطريقة التعلم الخاطئة لها انعكاساتها السلبية الخطيرة على مستقبل البلاد . وما نعيشه من تدني في الـمستوى العلمي مثال حي لـهذه الحقيقة الـمرة . واللـه ولـي التـوفـيـق .
أ.د. مـضـر خـليل العـمر
       قسم الجغرافيا - كلية التربية - جامعة تكريت 
     ايلول (سبتمبر) / 1999