تشهد طريقة استخدامنا للخرائط تطورًا سريعًا، وسوف تغير ما هو أكثر من الطريقة التي نتنقل بها.
أين تقع …؟ |
هل
تعلم أين أنت؟ إنك تدرك قطعًا من وما يوجد بالقرب منك الآن، ربما تستطيع
أن تمعن النظر فيما هو أبعد فتلتقط اسم شارع أو نهر أو ناطحة سحاب تلوح من
فوق الأسطح. إذن يمكنك على الأرجح تحديد موقعك على خريطة.
بدون خرائط، كانت الصورة الذهنية عن مكاننا في العالم لتصبح مختلفة تمامًا. فقبل انتشار الخرائط المطبوعة لم يكن لدى البشر سوى فكرة محدودة للغاية عن حقيقة المناطق المحيطة بهم تعتمد على الذاكرة والوصف الشفهي.
لكن هناك ثورة أخرى في كيفية إدراكنا للعالم عبر الخرائط في طريقها إلينا الآن بفضل التقدم في العالم الرقمي؛ إذ إن هناك سباقًا محمومًا تشترك فيه بعض من أكبر شركات العالم لرسم خرائط الكرة الأرضية ولكل ما يجري بها من وقائع بتفصيل متقن، ويعتقد كثيرون أن الأمر لا يزال في بدايته.
تَعِدنا تلك الجهود المبذولة لإعداد الخرائط الرقمية بأكثر من مجرد إعادة إنتاج افتراضي للمساحات الطبيعية. فعلى مدار قرون، كان محور العالم هو مركز الحضارات مثل الصين أو القدس ثم جرينتش، أما الآن فمحور العالم هو أنت! فلأول مرة أصبحنا نستخدم خرائط تعرف أين نحن، ومن الممكن تهيئتها لتناسب احتياجاتنا. ويستعد هذا التطور لتغيير أفكارنا عما يحيط بنا والتأثير على قرارتنا ونحن نرتحل عبر العالم. ورغم أن تلك المناطق المجهولة قد لا تأوي تنانين أو وحوشًا بحرية، فقد لا تخلو كذلك من المفاجآت والأخطار.
ونظرًا لوجود الخرائط الرقمية في كل مكان على أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية، فمن السهل أن ننسى أنها حديثة الظهور نسبيًّا. فقد ظهرت أولى محاولات تحويل الخرائط إلى محتوى رقمي في عام ٢٠٠١ عندما نشرت هيئة المساحة البريطانية نسخًا رقمية من إصداراتها الورقية، وبعدها ببضع سنوات أعلنت مجموعة تدعى «خريطة الشارع المفتوح» OpenStreetMap عن خطط تهدف إلى إعداد خريطة رقمية مجانية للعالم يصممها مجموعة من المتطوعين كما هو الحال في المقالات المنشورة على موقع ويكيبيديا.
إلا إن الخرائط الرقمية لم تصبح جزءًا من الاتجاه السائد إلا بعدما اشتركت جوجل في الأمر في منتصف العقد الأول من القرن الحالي؛ إذ شهد عام ٢٠٠٤ انطلاق خدمة جوجل لوكال، والتي قدمت بيانات الشركات بجانب خريطة صغيرة. وفي غضون عام انطلقت خدمة خرائط جوجل بكل ما تشتمل عليه من إمكانيات تتيح البحث في الخرائط وإعطاء إرشادات، وسرعان ما بدأت الخرائط الرقمية تمثل أساس المئات من تطبيقات الهواتف الذكية.
لم تكن تلك التطورات سوى البداية، فكما يذهب جيري بروتون — مؤرخ الخرائط في كلية كوين ماري بجامعة لندن: «نحن لا نزال في حقبة الطابعة النقطية من الخرائط المتاحة على الإنترنت، لكننا نتقدم بسرعة فائقة، وبعد ١٠ أو ١٥ عامًا سوف ننظر إلى هذه التقنيات ونقول: يا لها من تقنيات بدائية مثيرة للخجل!»
ومؤخرًا، بدأت بعض شركات التكنولوجيا العملاقة الأخرى تدرك الإمكانيات الاقتصادية الهائلة للخرائط الرقمية، فطورت شركة مايكروسوفت تطبيق «خرائط بنج»، في حين أطلقت شركة نوكيا تطبيقًا يدعى «هنا» يقدم خرائط لجهاز كنيدل فاير الذي تنتجه أمازون. وفي العام الماضي انضمت شركة أبل إلى المنافسة؛ إذ يساوي الاستثمار في هذا المجال أموالًا طائلة؛ فعبر امتلاك الخريطة تستطيع الشركات بيع خدمات إعلانية مرتبطة جغرافيًّا بموقع الخريطة، وتحصيل رسوم من الشركات مقابل إدراجها عليها، ويمكنها كذلك فرض رسوم على الغير نظير استخدام الخرائط في التطبيقات والمواقع الإلكترونية.
إلا أن أكثر المناطق التي يرغب الجميع في تحديد مكانها هي تلك الأقرب إلى المنزل، بل داخل المباني؛ إذ سيستفيد معظم الناس من أداة للمساعدة على التنقل داخل المباني الضخمة أكثر من تلك المصممة لأحد أركان الأرض النائية. والأهم من ذلك أن وضع خريطة لمجمع تجاري صغير مربحة أكثر من خريطة لصحراء كاملة. حاليًّا يقدم تطبيق خرائط جوجل خرائط توضيحية لطوابق داخل حوالي ١٠٠٠٠ مبنًى، بينما يضم تطبيق خرائط بنج ما يزيد على ٣٣٠٠ مبنًى. وتتضمن القائمة أماكن عامة مثل المطارات والمستشفيات ومحطات القطارات والجامعات والمتاحف، بالإضافة إلى المتاجر الكبرى، مثل: إيكيا وهارودز وجون لويس في المملكة المتحدة، وهوم ديبو في الولايات المتحدة الأمريكية. وهو الاتجاه المتزايد حاليًّا.
وكما هو الحال في الخرائط الرقمية للمناطق الخارجية، يمنحك استعراض خرائط الطوابق على هاتفك الذكي قدرة أفضل على التنقل مقارنة بالخرائط التقليدية، وأحد الأماكن التي ربما تظهر فيها فائدة هذا النوع من الخرائط هو المطار؛ حيث قد تتسبب الخرائط المعلقة على اللوحات الإرشادية في إرباك المسافرين — كما يذهب مانك جوبتا مدير أول المنتجات في «جوجل مابس» — إذ توضح الخرائط الرقمية للمطارات التي تقدِّمها شركتُه موقعَك بالضبط، ويأملون أن يقدموا قريبًا خدمة الإرشادات لمساعدتك على التوجه للبوابة التي تبحث عنها.
ليست تلك هي الطريقة الوحيدة التي أصبحنا بها في مركز الخريطة، فقد تحمل الخرائط الرقمية مستويات عدة من المعلومات عما يحيط بنا، سواء أكانت معلومات مباشرة عن حالة المرور أو الحافلات القريبة أو حالة الطقس المتوقعة، والأهم هو إمكانية ضبط تلك الإمكانيات وفقًا لاحتياجاتنا.
فيما مضى، كان كم هائل من هذه المعلومات غير متاح لمعظم الناس، فكما يوضح نايجل شادبولت — رئيس معهد البيانات المفتوحة بلندن — أن أكثرها كان محتجزًا لدى الحكومات أو قواعد البيانات الحصرية التي لا تكون متاحة إلا باشتراك. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت فتح مخازن المعلومات تلك أمام العامة، فيقول شادبولت: «أشعر أن ذلك في مصلحة العامة بالضبط كالهواء النقي والماء النظيف.»
على سبيل المثال عندما بدأت قوات الشرطة في نشر بيانات الجرائم لديها على الإنترنت مصنفة حسب موقعها، ظهرت العديد من التطبيقات لعرض تلك البيانات جغرافيًّا، مثل: تطبيق «كرايم مابس» في المملكة المتحدة، و«سبوت كرايم» في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أتاحت تلك التطبيقات للعامة استعراض خرائط توضح الجرائم التي تقع على مقربة منهم بدءًا من جرائم الانحراف السلوكي ووصولًا إلى جرائم القتل. ويتم تحديث هذه البيانات سريعًا في أغلب الأحيان؛ فقوات الشرطة في هامشاير بالمملكة المتحدة مثلًا تُحمِّل بياناتها في غضون ٢٤ ساعة من وقوع الجريمة.
كذلك تحاول بعض المجموعات دمج كل هذه المعلومات، فمثلًا يوفر موقع «سيتي داشبورد» City Dashboard التابع لمركز التحليل المكاني المتقدم بكلية لندن الجامعية خرائط على الإنترنت لثمانٍ من المدن الكبرى في المملكة المتحدة تعرض الأحوال الجوية مباشرة، وبيانات تلوث الهواء التي تصدرها إحدى الهيئات الحكومية البريطانية، فضلًا عن صور لشوارع معينة تلتقطها كاميرات المراقبة التليفزيونية.
والأكثر من ذلك هو أن بعض المعلومات التي أضيفت إلى الخرائط الرقمية يقال إنها لم تُسجل في الوقت الفعلي من قبل، فمثلًا يعرض موقع «سيتي داشبورد» مؤشرات خاصة بمستوى السعادة في المنطقة، وتستقي تلك المؤشرات بياناتها من موقع يدعى «مابينيس» Mappiness الذي يطلب من المتطوعين تسجيل حالتهم المزاجية طوال اليوم. وبالمثل يعمل العديد من الباحثين على إنشاء خرائط للمشاعر السائدة في منطقة معينة باستخدام موقع تويتر؛ إذ إن العديد من التغريدات تُظهر موقع صاحبها، ومن ثم يمكن عبر تحليل اللغة المستخدمة في التحديثات استنتاج الحالة المزاجية أو الرأي العام للسكان، وإضافة تلك المعلومات إلى خرائط يتم تحديثها باستمرار.
إن اكتساب مثل هذا الوعي المكثف بالبيئة المحيطة بنا قد يؤثر على قراراتنا ونحن نتجول حول العالم؛ فتخيل مثلًا أنك وصلت لتوك وتتجول في مدينة جديدة مجهولة. لطالما كان الوعي بمستويات الجريمة في مناطق معينة محدودًا للغاية، لكن وجود خريطة مفصلة تحوي تلك المعلومات يقدم واقعًا ملموسًا يمكن أن يتم اتخاذ القرارات على أساسه. أضف إلى ذلك خرائط توضح أسعار المنازل ومقالات نقدية عن المطاعم والإحصائيات السكانية المحلية ومستوى الرفاهة وغيرها من المعلومات؛ فهذا من شأنه قطعًا أن يُغير تصورنا عن اختيار الأماكن التي نختار أن نعيش فيها أو نزورها. لكن هذا التطور ليس مرحبًا به من قبل الجميع بالضرورة، فقد يعوق ذلك الاستثمارات في المناطق التي تحتاج إليها، ويُرسخ الحرمان الاجتماعي في بعض المناطق.
لكن وجود تلك الخرائط الثرية بالمعلومات في متناول أيدينا سيؤدي كذلك إلى نتيجة أخرى غير متوقعة؛ ألا وهي أننا سنثق بها أكثر من اللازم. وقد ألقت بعض الأخطاء البارزة الضوء بالفعل على الأخطار المترتبة على تلك الثقة؛ فعلى سبيل المثال، أخطأت شركة أبل مؤخرًا في تحديد موقع بلدة أسترالية على خريطتها المدمجة بهواتف آيفون، وهو خطأ تسبب في أن ضل مستخدمو الخريطة طريقهم في منطقة نائية واضطروا للاستعانة بالشرطة لإنقاذهم.
فضمان الدقة ليس بالمهمة السهلة (انظر عنوان «الخرائط ومسلسل ماكجيفر»)، وترجع جذور هذه المشكلات إلى حقيقة هامة؛ ألا وهي: لا توجد خريطة تعرض الواقع؛ إنما هي دومًا تصميم تجريدي. يقول بات سييد، مؤرخ الخرائط في جامعة كاليفورنيا بمدينة إرفاين: «الخرائط صحيحة من منظور معين، لكن لا توجد حقائق مطلقة.»
يتخذ واضعو الخرائط دومًا سلسلة من الاختيارات حول كيفية تمثيل الواقع، وقد يؤثر هذا الاختيار على منظورنا دون أن ندرك ذلك. وهو نفس ما حدث في الخرائط المطبوعة؛ فمعظم خرائط العالم تستند إلى مسقط مركاتور الذي ابتكره جراردوس مركاتور عام ١٥٦٩، والذي يضخم حجم أوروبا بينما يقلص من حجم أفريقيا بشكل ملحوظ، مما يجعله تعبيرًا تجريديًّا عن الهيمنة الجيوسياسية أكثر من الدقة الجغرافية، ورغم ذلك لا يزال يشكل صورة العالم في أذهاننا.
علاوة على ذلك قد لا تتفق مصالح تلك الشركات دومًا مع مصالح الأشخاص الذين يطمحون في الحصول على خريطة دقيقة، فمثلًا عند البحث عن المقاهي أو الحانات الموجودة في منطقة ما قد يتعذر عليك في بعض الأحيان معرفة ما إذا كانت نتائج هذا البحث تصف بالفعل ما هو موجود على أرض الواقع أم تقدم عرضًا لإعلانات مدفوعة الأجر. إن فرص تحويل الخرائط المتاحة على الإنترنت إلى سلع فرص لا نهائية، ويكتنفها الغموض.
لكن ما يدعو للاطمئنان هو تسارع الجهود المبذولة لجعل الخرائط الرقمية أكثر شفافية. فعلى سبيل المثال، لم يستطع مشروع خريطة الشارع المفتوح عند انطلاقه عام ٢٠٠٤ منافسة نطاق جوجل ومستوى تفاصيله؛ نظرًا لأنه يعتمد على مساهمات مستخدميه، لكنه منذ ذلك الحين تطور تطورًا ملحوظًا وأصبح الآن أساس العديد من التطبيقات المعتمدة على تحديد الموقع. ويزعم كثير من مستخدميه أنه أكثر دقة من جوجل في بعض المدن.
يتيح أسلوب التحرير المفتوح المستخدم في مشروع خريطة الشارع المفتوح لمستخدميه تحكمًا أكبر في الخرائط التي يستخدمونها. يقول ستيف كوست مؤسس المشروع: «إنه يسمح للمستخدمين بالتدخل في الخرائط وتغيير ما يُملى عليهم عادة.» وليس واضحًا ما إذا كان هذا المشروع سيتمكن من زحزحة هيمنة جوجل أم لا، لكن مؤيدي المشروع يزعمون أنه على الأقل هناك منافسة من قبل مؤسسة تضع الدقة والوضوح على رأس أولوياتها وليس الربح المالي.
قد لا يقتصر تأثير الخرائط الرقمية في النهاية على قراراتنا التجارية فحسب، فكما يقول جورج جارتنر — رسام الخرائط في جامعة فيينا للتكنولوجيا في النمسا ورئيس الرابطة الدولية لرسم الخرائط — فإنه مع تزايد أعداد الأشخاص الذين يعتمدون على خرائط الهواتف الذكية في تنقلاتهم ربما يمتد تأثيرها إلى قدرتنا على بناء خرائط في أذهاننا.
يزعم جارتنر أن قراءة الخرائط على الهواتف المحمولة قد يؤثر على إدراكنا المكاني؛ فنحن نستعرض أجزاء صغيرة من محيط الخريطة في كل مرة بسبب صغر حجم الشاشة. وقد اكتشف جارتنر في تجربة أجراها، أن الأشخاص الذين استخدموا عددًا من الخرائط الصغيرة للتنقل داخل إحدى المدن واجهوا صعوبة أكبر في إيجاد طريقهم بالنسبة لمواقع المعالم الرئيسية بالمدينة، مقارنة بمن استخدموا خريطة أكبر ذات سياق أوضح، كما أنهم واجهوا صعوبة لوصف تصور دقيق لمسارهم.
وعلاوة على ذلك، قد تكون الخرائط الرقمية أقل فعالية من الخرائط الورقية في مساعدتك على التنقل، على الأقل إذا كنت تسير على قدميك؛ إذ قارن تورو إيشيكاوا، من جامعة طوكيو في اليابان، مهارات التنقل لدى مستخدمي الخرائط الرقمية والخرائط الورقية في الشوارع التي لا يعرفونها، ووجد أن من يعتمدون على هواتفهم يتحركون ببطء أكبر ويسيرون لمسافات أطول، وكان أداؤهم أسوأ في استنباط وجهتهم ممن استخدموا الخرائط الورقية (مجلة جورنال أوف إينفيرومينتال سايكولوجي، المجلد ٢٨، صفحة ٧٤).
عند استخدام الخرائط الورقية نضطر إلى بذل جهد لإدراك موقعنا، لكن دون بذل هذا المجهود الذهني نصبح مهددين بتدهور قدرتنا على الاحتفاظ بالخرائط في ذهننا. يؤكد جارتنر هذا قائلًا: «تؤدي الخرائط المدمجة على الأجهزة المحمولة أو في نظم الملاحة الإلكترونية إلى تكوين خرائط ذهنية أقل دقة، كذلك تنتقص من قدرة الفرد على التصرف في عالم الواقع.»
تسعى الخرائط الرقمية لتحسين العالم واستغلاله الاستغلال الأفضل، مما يمنحنا تجربة أكثر ثراءً أثناء التنقل عبر العالم، لكننا كذلك عند استخدامها نجازف بأن نصبح أكثر بلادة، وأن يقل لدينا حب الاستطلاع والمغامرة؛ إذ إنها توفر لنا تجربة معدة مسبقًا يتم نقلها بوسيلة رقمية، والتي تجعلنا أكثر اعتمادًا على الأجهزة التي نمتلكها أكثر من أي وقت مضى.
إن المخاطر والمزايا المحتملة التي نواجهها عند الدخول إلى المناطق التي توضحها خرائط رقمية مرتفعةٌ؛ ولكن لو أننا حافظنا على قدر جيد من الاطلاع فربما لا نضل الطريق.
وفيما يتعلق بالخرائط الأساسية، لا تزال شركات مثل جوجل وأبل تعتمد بشدة على هيئات رسم الخرائط التقليدية؛ إذ لجأت شركة جوجل مابس — من أجل الحصول على معلومات طوبوغرافية تخص العديد من الدول — إلى شركة رسم الخرائط الهولندية تيلي أطلس، والتي تجمع بدورها المعلومات من هيئات راسخة مرموقة مثل هيئة المساحة البريطانية.
لكن جوجل ترغب في تغيير هذا، فعلى مدار السنوات القليلة الماضية بدأت الشركة في تنفيذ مشروع أطلقت عليه اسم «جراوند تروث» الذي ينطوي جزء كبير منه على معالجة صور الأقمار الصناعية وصور خدمة «ستريت فيو» لإعداد الخرائط من نقطة الصفر. إذ يعمل مهندسو جوجل على تطوير خوارزميات تحوي برامج للتعرف على الرموز البصرية بغرض قراءة اللافتات، مثل أسماء الشوارع أو اللافتات التحذيرية مثل «شارع اتجاه واحد»، حتى تتم تسمية الطرق وتمييزها بدقة. ويمكنهم كذلك التعرف على شعارات الشركات على واجهات المتاجر كي تكون أسماء الشركات التي توضحها الخرائط حديثة.
يساعد استخدام البرامج المُؤَتْمَتَة في إعداد خرائط العالم على تسريع العملية، لكن لهذه التقنية عيوبها كذلك، فعلى سبيل المثال: في عام ٢٠١٠ أعادت جوجل عن طريق الخطأ تسمية جزيرة ساموس اليونانية على اسم شخصية ماكجيفر — وهو بطل المسلسل التليفزيوني الذي عرض في ثمانينيات القرن العشرين — حيث إنه عندما كانت خوارزميات جوجل تجمع بشق الأنفس معلومات جغرافية من على موقع ويكيبيديا قام أحد المخربين بتغيير المعلومات الموجودة في تلك الموسوعة المتاحة عبر الإنترنت؛ ولم يُصحح خطأ «جزيرة ماكجيفر» إلا بعد عدة أيام.
بدون خرائط، كانت الصورة الذهنية عن مكاننا في العالم لتصبح مختلفة تمامًا. فقبل انتشار الخرائط المطبوعة لم يكن لدى البشر سوى فكرة محدودة للغاية عن حقيقة المناطق المحيطة بهم تعتمد على الذاكرة والوصف الشفهي.
لكن هناك ثورة أخرى في كيفية إدراكنا للعالم عبر الخرائط في طريقها إلينا الآن بفضل التقدم في العالم الرقمي؛ إذ إن هناك سباقًا محمومًا تشترك فيه بعض من أكبر شركات العالم لرسم خرائط الكرة الأرضية ولكل ما يجري بها من وقائع بتفصيل متقن، ويعتقد كثيرون أن الأمر لا يزال في بدايته.
تَعِدنا تلك الجهود المبذولة لإعداد الخرائط الرقمية بأكثر من مجرد إعادة إنتاج افتراضي للمساحات الطبيعية. فعلى مدار قرون، كان محور العالم هو مركز الحضارات مثل الصين أو القدس ثم جرينتش، أما الآن فمحور العالم هو أنت! فلأول مرة أصبحنا نستخدم خرائط تعرف أين نحن، ومن الممكن تهيئتها لتناسب احتياجاتنا. ويستعد هذا التطور لتغيير أفكارنا عما يحيط بنا والتأثير على قرارتنا ونحن نرتحل عبر العالم. ورغم أن تلك المناطق المجهولة قد لا تأوي تنانين أو وحوشًا بحرية، فقد لا تخلو كذلك من المفاجآت والأخطار.
ونظرًا لوجود الخرائط الرقمية في كل مكان على أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية، فمن السهل أن ننسى أنها حديثة الظهور نسبيًّا. فقد ظهرت أولى محاولات تحويل الخرائط إلى محتوى رقمي في عام ٢٠٠١ عندما نشرت هيئة المساحة البريطانية نسخًا رقمية من إصداراتها الورقية، وبعدها ببضع سنوات أعلنت مجموعة تدعى «خريطة الشارع المفتوح» OpenStreetMap عن خطط تهدف إلى إعداد خريطة رقمية مجانية للعالم يصممها مجموعة من المتطوعين كما هو الحال في المقالات المنشورة على موقع ويكيبيديا.
إلا إن الخرائط الرقمية لم تصبح جزءًا من الاتجاه السائد إلا بعدما اشتركت جوجل في الأمر في منتصف العقد الأول من القرن الحالي؛ إذ شهد عام ٢٠٠٤ انطلاق خدمة جوجل لوكال، والتي قدمت بيانات الشركات بجانب خريطة صغيرة. وفي غضون عام انطلقت خدمة خرائط جوجل بكل ما تشتمل عليه من إمكانيات تتيح البحث في الخرائط وإعطاء إرشادات، وسرعان ما بدأت الخرائط الرقمية تمثل أساس المئات من تطبيقات الهواتف الذكية.
لم تكن تلك التطورات سوى البداية، فكما يذهب جيري بروتون — مؤرخ الخرائط في كلية كوين ماري بجامعة لندن: «نحن لا نزال في حقبة الطابعة النقطية من الخرائط المتاحة على الإنترنت، لكننا نتقدم بسرعة فائقة، وبعد ١٠ أو ١٥ عامًا سوف ننظر إلى هذه التقنيات ونقول: يا لها من تقنيات بدائية مثيرة للخجل!»
ومؤخرًا، بدأت بعض شركات التكنولوجيا العملاقة الأخرى تدرك الإمكانيات الاقتصادية الهائلة للخرائط الرقمية، فطورت شركة مايكروسوفت تطبيق «خرائط بنج»، في حين أطلقت شركة نوكيا تطبيقًا يدعى «هنا» يقدم خرائط لجهاز كنيدل فاير الذي تنتجه أمازون. وفي العام الماضي انضمت شركة أبل إلى المنافسة؛ إذ يساوي الاستثمار في هذا المجال أموالًا طائلة؛ فعبر امتلاك الخريطة تستطيع الشركات بيع خدمات إعلانية مرتبطة جغرافيًّا بموقع الخريطة، وتحصيل رسوم من الشركات مقابل إدراجها عليها، ويمكنها كذلك فرض رسوم على الغير نظير استخدام الخرائط في التطبيقات والمواقع الإلكترونية.
مساحات داخلية
بالرغم من هذا المجهود، لا تزال أجزاء كثيرة من العالم مجهولة رقميًّا، وتمثل المحيطات أحد تلك الأجزاء. فتضع جوجل حاليًّا خرائط للحاجز المرجاني العظيم، بينما يعرض تطبيق خرائط بنج مواقع حطام السفن، ويرسم مشروع يدعى «أوبن سي ماب» OpenSeaMap خرائط لخطوط النقل البحري وعوامات إرشاد السفن وغيرها من المعالم.إلا أن أكثر المناطق التي يرغب الجميع في تحديد مكانها هي تلك الأقرب إلى المنزل، بل داخل المباني؛ إذ سيستفيد معظم الناس من أداة للمساعدة على التنقل داخل المباني الضخمة أكثر من تلك المصممة لأحد أركان الأرض النائية. والأهم من ذلك أن وضع خريطة لمجمع تجاري صغير مربحة أكثر من خريطة لصحراء كاملة. حاليًّا يقدم تطبيق خرائط جوجل خرائط توضيحية لطوابق داخل حوالي ١٠٠٠٠ مبنًى، بينما يضم تطبيق خرائط بنج ما يزيد على ٣٣٠٠ مبنًى. وتتضمن القائمة أماكن عامة مثل المطارات والمستشفيات ومحطات القطارات والجامعات والمتاحف، بالإضافة إلى المتاجر الكبرى، مثل: إيكيا وهارودز وجون لويس في المملكة المتحدة، وهوم ديبو في الولايات المتحدة الأمريكية. وهو الاتجاه المتزايد حاليًّا.
وكما هو الحال في الخرائط الرقمية للمناطق الخارجية، يمنحك استعراض خرائط الطوابق على هاتفك الذكي قدرة أفضل على التنقل مقارنة بالخرائط التقليدية، وأحد الأماكن التي ربما تظهر فيها فائدة هذا النوع من الخرائط هو المطار؛ حيث قد تتسبب الخرائط المعلقة على اللوحات الإرشادية في إرباك المسافرين — كما يذهب مانك جوبتا مدير أول المنتجات في «جوجل مابس» — إذ توضح الخرائط الرقمية للمطارات التي تقدِّمها شركتُه موقعَك بالضبط، ويأملون أن يقدموا قريبًا خدمة الإرشادات لمساعدتك على التوجه للبوابة التي تبحث عنها.
ليست تلك هي الطريقة الوحيدة التي أصبحنا بها في مركز الخريطة، فقد تحمل الخرائط الرقمية مستويات عدة من المعلومات عما يحيط بنا، سواء أكانت معلومات مباشرة عن حالة المرور أو الحافلات القريبة أو حالة الطقس المتوقعة، والأهم هو إمكانية ضبط تلك الإمكانيات وفقًا لاحتياجاتنا.
فيما مضى، كان كم هائل من هذه المعلومات غير متاح لمعظم الناس، فكما يوضح نايجل شادبولت — رئيس معهد البيانات المفتوحة بلندن — أن أكثرها كان محتجزًا لدى الحكومات أو قواعد البيانات الحصرية التي لا تكون متاحة إلا باشتراك. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت فتح مخازن المعلومات تلك أمام العامة، فيقول شادبولت: «أشعر أن ذلك في مصلحة العامة بالضبط كالهواء النقي والماء النظيف.»
على سبيل المثال عندما بدأت قوات الشرطة في نشر بيانات الجرائم لديها على الإنترنت مصنفة حسب موقعها، ظهرت العديد من التطبيقات لعرض تلك البيانات جغرافيًّا، مثل: تطبيق «كرايم مابس» في المملكة المتحدة، و«سبوت كرايم» في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أتاحت تلك التطبيقات للعامة استعراض خرائط توضح الجرائم التي تقع على مقربة منهم بدءًا من جرائم الانحراف السلوكي ووصولًا إلى جرائم القتل. ويتم تحديث هذه البيانات سريعًا في أغلب الأحيان؛ فقوات الشرطة في هامشاير بالمملكة المتحدة مثلًا تُحمِّل بياناتها في غضون ٢٤ ساعة من وقوع الجريمة.
كذلك تحاول بعض المجموعات دمج كل هذه المعلومات، فمثلًا يوفر موقع «سيتي داشبورد» City Dashboard التابع لمركز التحليل المكاني المتقدم بكلية لندن الجامعية خرائط على الإنترنت لثمانٍ من المدن الكبرى في المملكة المتحدة تعرض الأحوال الجوية مباشرة، وبيانات تلوث الهواء التي تصدرها إحدى الهيئات الحكومية البريطانية، فضلًا عن صور لشوارع معينة تلتقطها كاميرات المراقبة التليفزيونية.
والأكثر من ذلك هو أن بعض المعلومات التي أضيفت إلى الخرائط الرقمية يقال إنها لم تُسجل في الوقت الفعلي من قبل، فمثلًا يعرض موقع «سيتي داشبورد» مؤشرات خاصة بمستوى السعادة في المنطقة، وتستقي تلك المؤشرات بياناتها من موقع يدعى «مابينيس» Mappiness الذي يطلب من المتطوعين تسجيل حالتهم المزاجية طوال اليوم. وبالمثل يعمل العديد من الباحثين على إنشاء خرائط للمشاعر السائدة في منطقة معينة باستخدام موقع تويتر؛ إذ إن العديد من التغريدات تُظهر موقع صاحبها، ومن ثم يمكن عبر تحليل اللغة المستخدمة في التحديثات استنتاج الحالة المزاجية أو الرأي العام للسكان، وإضافة تلك المعلومات إلى خرائط يتم تحديثها باستمرار.
إن اكتساب مثل هذا الوعي المكثف بالبيئة المحيطة بنا قد يؤثر على قراراتنا ونحن نتجول حول العالم؛ فتخيل مثلًا أنك وصلت لتوك وتتجول في مدينة جديدة مجهولة. لطالما كان الوعي بمستويات الجريمة في مناطق معينة محدودًا للغاية، لكن وجود خريطة مفصلة تحوي تلك المعلومات يقدم واقعًا ملموسًا يمكن أن يتم اتخاذ القرارات على أساسه. أضف إلى ذلك خرائط توضح أسعار المنازل ومقالات نقدية عن المطاعم والإحصائيات السكانية المحلية ومستوى الرفاهة وغيرها من المعلومات؛ فهذا من شأنه قطعًا أن يُغير تصورنا عن اختيار الأماكن التي نختار أن نعيش فيها أو نزورها. لكن هذا التطور ليس مرحبًا به من قبل الجميع بالضرورة، فقد يعوق ذلك الاستثمارات في المناطق التي تحتاج إليها، ويُرسخ الحرمان الاجتماعي في بعض المناطق.
لكن وجود تلك الخرائط الثرية بالمعلومات في متناول أيدينا سيؤدي كذلك إلى نتيجة أخرى غير متوقعة؛ ألا وهي أننا سنثق بها أكثر من اللازم. وقد ألقت بعض الأخطاء البارزة الضوء بالفعل على الأخطار المترتبة على تلك الثقة؛ فعلى سبيل المثال، أخطأت شركة أبل مؤخرًا في تحديد موقع بلدة أسترالية على خريطتها المدمجة بهواتف آيفون، وهو خطأ تسبب في أن ضل مستخدمو الخريطة طريقهم في منطقة نائية واضطروا للاستعانة بالشرطة لإنقاذهم.
فضمان الدقة ليس بالمهمة السهلة (انظر عنوان «الخرائط ومسلسل ماكجيفر»)، وترجع جذور هذه المشكلات إلى حقيقة هامة؛ ألا وهي: لا توجد خريطة تعرض الواقع؛ إنما هي دومًا تصميم تجريدي. يقول بات سييد، مؤرخ الخرائط في جامعة كاليفورنيا بمدينة إرفاين: «الخرائط صحيحة من منظور معين، لكن لا توجد حقائق مطلقة.»
يتخذ واضعو الخرائط دومًا سلسلة من الاختيارات حول كيفية تمثيل الواقع، وقد يؤثر هذا الاختيار على منظورنا دون أن ندرك ذلك. وهو نفس ما حدث في الخرائط المطبوعة؛ فمعظم خرائط العالم تستند إلى مسقط مركاتور الذي ابتكره جراردوس مركاتور عام ١٥٦٩، والذي يضخم حجم أوروبا بينما يقلص من حجم أفريقيا بشكل ملحوظ، مما يجعله تعبيرًا تجريديًّا عن الهيمنة الجيوسياسية أكثر من الدقة الجغرافية، ورغم ذلك لا يزال يشكل صورة العالم في أذهاننا.
سمات خفية
تكمن مشكلة العديد من الخرائط الرقمية في صعوبة إدراك كيفية إعدادها، ومن هم الأشخاص وما هي الأشياء والأماكن التي أغفلتها؟ يقول مارك جراهام، مدير الأبحاث في معهد أكسفورد للإنترنت بجامعة أكسفورد: «يصعب للغاية الإجابة عن تلك الأسئلة في كثير من الأحيان.» ويضيف أن اختيارات شركات مثل جوجل ومايكروسوفت فيما يتعلق بإعداد الخرائط غالبًا ما تكون غير واضحة، ويظل الكود والقواعد التي تُبنى عليها لغزًا.علاوة على ذلك قد لا تتفق مصالح تلك الشركات دومًا مع مصالح الأشخاص الذين يطمحون في الحصول على خريطة دقيقة، فمثلًا عند البحث عن المقاهي أو الحانات الموجودة في منطقة ما قد يتعذر عليك في بعض الأحيان معرفة ما إذا كانت نتائج هذا البحث تصف بالفعل ما هو موجود على أرض الواقع أم تقدم عرضًا لإعلانات مدفوعة الأجر. إن فرص تحويل الخرائط المتاحة على الإنترنت إلى سلع فرص لا نهائية، ويكتنفها الغموض.
لكن ما يدعو للاطمئنان هو تسارع الجهود المبذولة لجعل الخرائط الرقمية أكثر شفافية. فعلى سبيل المثال، لم يستطع مشروع خريطة الشارع المفتوح عند انطلاقه عام ٢٠٠٤ منافسة نطاق جوجل ومستوى تفاصيله؛ نظرًا لأنه يعتمد على مساهمات مستخدميه، لكنه منذ ذلك الحين تطور تطورًا ملحوظًا وأصبح الآن أساس العديد من التطبيقات المعتمدة على تحديد الموقع. ويزعم كثير من مستخدميه أنه أكثر دقة من جوجل في بعض المدن.
يتيح أسلوب التحرير المفتوح المستخدم في مشروع خريطة الشارع المفتوح لمستخدميه تحكمًا أكبر في الخرائط التي يستخدمونها. يقول ستيف كوست مؤسس المشروع: «إنه يسمح للمستخدمين بالتدخل في الخرائط وتغيير ما يُملى عليهم عادة.» وليس واضحًا ما إذا كان هذا المشروع سيتمكن من زحزحة هيمنة جوجل أم لا، لكن مؤيدي المشروع يزعمون أنه على الأقل هناك منافسة من قبل مؤسسة تضع الدقة والوضوح على رأس أولوياتها وليس الربح المالي.
قد لا يقتصر تأثير الخرائط الرقمية في النهاية على قراراتنا التجارية فحسب، فكما يقول جورج جارتنر — رسام الخرائط في جامعة فيينا للتكنولوجيا في النمسا ورئيس الرابطة الدولية لرسم الخرائط — فإنه مع تزايد أعداد الأشخاص الذين يعتمدون على خرائط الهواتف الذكية في تنقلاتهم ربما يمتد تأثيرها إلى قدرتنا على بناء خرائط في أذهاننا.
يزعم جارتنر أن قراءة الخرائط على الهواتف المحمولة قد يؤثر على إدراكنا المكاني؛ فنحن نستعرض أجزاء صغيرة من محيط الخريطة في كل مرة بسبب صغر حجم الشاشة. وقد اكتشف جارتنر في تجربة أجراها، أن الأشخاص الذين استخدموا عددًا من الخرائط الصغيرة للتنقل داخل إحدى المدن واجهوا صعوبة أكبر في إيجاد طريقهم بالنسبة لمواقع المعالم الرئيسية بالمدينة، مقارنة بمن استخدموا خريطة أكبر ذات سياق أوضح، كما أنهم واجهوا صعوبة لوصف تصور دقيق لمسارهم.
وعلاوة على ذلك، قد تكون الخرائط الرقمية أقل فعالية من الخرائط الورقية في مساعدتك على التنقل، على الأقل إذا كنت تسير على قدميك؛ إذ قارن تورو إيشيكاوا، من جامعة طوكيو في اليابان، مهارات التنقل لدى مستخدمي الخرائط الرقمية والخرائط الورقية في الشوارع التي لا يعرفونها، ووجد أن من يعتمدون على هواتفهم يتحركون ببطء أكبر ويسيرون لمسافات أطول، وكان أداؤهم أسوأ في استنباط وجهتهم ممن استخدموا الخرائط الورقية (مجلة جورنال أوف إينفيرومينتال سايكولوجي، المجلد ٢٨، صفحة ٧٤).
عند استخدام الخرائط الورقية نضطر إلى بذل جهد لإدراك موقعنا، لكن دون بذل هذا المجهود الذهني نصبح مهددين بتدهور قدرتنا على الاحتفاظ بالخرائط في ذهننا. يؤكد جارتنر هذا قائلًا: «تؤدي الخرائط المدمجة على الأجهزة المحمولة أو في نظم الملاحة الإلكترونية إلى تكوين خرائط ذهنية أقل دقة، كذلك تنتقص من قدرة الفرد على التصرف في عالم الواقع.»
تسعى الخرائط الرقمية لتحسين العالم واستغلاله الاستغلال الأفضل، مما يمنحنا تجربة أكثر ثراءً أثناء التنقل عبر العالم، لكننا كذلك عند استخدامها نجازف بأن نصبح أكثر بلادة، وأن يقل لدينا حب الاستطلاع والمغامرة؛ إذ إنها توفر لنا تجربة معدة مسبقًا يتم نقلها بوسيلة رقمية، والتي تجعلنا أكثر اعتمادًا على الأجهزة التي نمتلكها أكثر من أي وقت مضى.
إن المخاطر والمزايا المحتملة التي نواجهها عند الدخول إلى المناطق التي توضحها خرائط رقمية مرتفعةٌ؛ ولكن لو أننا حافظنا على قدر جيد من الاطلاع فربما لا نضل الطريق.
الخرائط ومسلسل ماكجيفر
إن إعداد الخرائط الرقمية ليس بالمهمة السهلة على الإطلاق؛ فوراء هذا الشكل الخارجي تقف مصادر لا حصر لها، مما قد يتسبب في وقوع أخطاء.وفيما يتعلق بالخرائط الأساسية، لا تزال شركات مثل جوجل وأبل تعتمد بشدة على هيئات رسم الخرائط التقليدية؛ إذ لجأت شركة جوجل مابس — من أجل الحصول على معلومات طوبوغرافية تخص العديد من الدول — إلى شركة رسم الخرائط الهولندية تيلي أطلس، والتي تجمع بدورها المعلومات من هيئات راسخة مرموقة مثل هيئة المساحة البريطانية.
لكن جوجل ترغب في تغيير هذا، فعلى مدار السنوات القليلة الماضية بدأت الشركة في تنفيذ مشروع أطلقت عليه اسم «جراوند تروث» الذي ينطوي جزء كبير منه على معالجة صور الأقمار الصناعية وصور خدمة «ستريت فيو» لإعداد الخرائط من نقطة الصفر. إذ يعمل مهندسو جوجل على تطوير خوارزميات تحوي برامج للتعرف على الرموز البصرية بغرض قراءة اللافتات، مثل أسماء الشوارع أو اللافتات التحذيرية مثل «شارع اتجاه واحد»، حتى تتم تسمية الطرق وتمييزها بدقة. ويمكنهم كذلك التعرف على شعارات الشركات على واجهات المتاجر كي تكون أسماء الشركات التي توضحها الخرائط حديثة.
يساعد استخدام البرامج المُؤَتْمَتَة في إعداد خرائط العالم على تسريع العملية، لكن لهذه التقنية عيوبها كذلك، فعلى سبيل المثال: في عام ٢٠١٠ أعادت جوجل عن طريق الخطأ تسمية جزيرة ساموس اليونانية على اسم شخصية ماكجيفر — وهو بطل المسلسل التليفزيوني الذي عرض في ثمانينيات القرن العشرين — حيث إنه عندما كانت خوارزميات جوجل تجمع بشق الأنفس معلومات جغرافية من على موقع ويكيبيديا قام أحد المخربين بتغيير المعلومات الموجودة في تلك الموسوعة المتاحة عبر الإنترنت؛ ولم يُصحح خطأ «جزيرة ماكجيفر» إلا بعد عدة أيام.