د. وليد خليل الزباري
يعتبر التصدي لمشكلة ندرة المياه، الناجمة من أسباب طبيعية أو
بشرية، من التحديات التي تواجه البلدان العربية. وينتظر أن يتعاظم هذا
التحدي مع الزمن بسبب العديد من القوى المحرّكة الضاغطة، بما في ذلك النموّ
السكاني، والطلب على الغذاء، والموارد المائية المشتركة المسيّسة والتي لم
يُبتّ فيها، وتغيّر المناخ، وكثير غيرها. وهذا يجبر مزيداً من البلدان على
اللجوء إلى مصادر مائية أكثر كلفة، مثل تحلية مياه البحر، لزيادة
إمداداتها المحدودة من المياه العذبة. لذا فإن التكاليف المالية
والاقتصادية والبيئية والاجتماعية الثقيلة والأعباء التي يتعين تحملها
كبيرة جداً.
ويزداد تحدي ندرة المياه تعقيداً بترابطه مع مختلف القطاعات
التنموية، مثل ترابط الماء بالصحة البشرية، والماء بالبيئة، والماء
بالغذاء، والماء بالطاقة، وكثير من أوجه الترابط الأخرى التي تحمل معها
قضايا متقاطعة مثل حقوق الإنسان والمسائل الاجتماعية والاقتصادية
والقانونية والتقنية والسياسية والأمنية. لذا من المهم مقاربة الارتباطات
المختلفة لقطاع المياه بقطاعات أخرى مثل الطاقة والغذاء والصحة والتنمية
الاقتصادية ككل. وعلى المتخصصين في جميع القطاعات التفكير والعمل أبعد من
حدود قطاعهم لتحقيق التخطيط والإدارة الفعالين والمتكاملين للموارد.
المحاور الرئيسية
ترابط الماء والطاقة
المطلوب تخطيط وأبحاث
ترابط الماء والغذاء
نحو أمن غذائي عربي
بناء على الاتجاهات الراهنة للنموّ السكاني وما يترتب عليها من طلبات
على الماء والغذاء والطاقة في المنطقة العربية، يترابط الأمن المائي
والأمن الطاقوي والأمن الغذائي ترابطاً وثيقاً معقّداً، ربما أكثر مما في
أي منطقة أخرى من العالم. وللإجراءات التي تتخذ في أحد هذه المجالات تأثير
قوي على المجالات الأخرى. ومن ثم فإن نهج التلازم الذي يدمج الإدارة
والحوكمة عبر هذه القطاعات الثلاثة يمكن أن يحسّن قضايا الأمن الثلاثي. ومن
شأنه أيضاً دعم الانتقال إلى اقتصاد أخضر يهدف، في ما يهدف إليه، إلى
كفاءة استخدام الموارد وانسجام السياسات.
ويتيح فهم هذا الترابط لصناع القرار تطوير السياسات والاستراتيجيات
والاستثمارات الملائمة لاستكشاف أوجه التآزر والتعاون واستغلالها، وتحديد
التوازن بين أهداف التنمية المتعلقة بأمن المياه والطاقة والغذاء. كما أن
منظور الترابط يزيد من فهم الاعتماد المتبادل بين هذه القطاعات الثلاثة،
ويؤثّر في السياسات المتعلقة بمجالات أخرى مثيرة للقلق، مثل تغيّر المناخ
والبيئة.
ترابط الماء والطاقة
من أهم أوجه الاعتماد المتبادل في البلدان العربية التلازم بين الماء
والطاقة، حيث تعتمد جميع قطاعات التنمية الاجتماعية ـ الاقتصادية على
الإمداد المستدام بهذين الموردين. وفضلاً عن أهميتهما المركزية
والاستراتيجية للمنطقة، فإنهما مترابطان بقوة، ويزداد تشابكهما مع تزايد
ندرة المياه في المنطقة. الطاقة مطلوبة في جميع أجزاء السلسلة القيمية
للماء، وتستخدم في كل مرحلة تقريباً من مراحل دورة الماء: الاستخراج من تحت
الأرض، تغذية محطات التحلية بمياه البحر أو المياه الممولحة وإنتاج المياه
العذبة، ضخّ المياه العذبة ونقلها وتوزيعها، تجميع مياه الصرف، إلى جانب
المعالجة وإعادة الاستعمال. فمن دون الطاقة، خصوصاً الكهرباء، لا تتوافر
المياه وتتوقّف نظم الإيصال والخدمات الإنسانية.
ويقدّر أن دورة الماء في معظم البلدان العربية تتطلّب 15 في المئة على
الأقل من الاستهلاك الوطني للكهرباء، وهذه النسبة مستمرة في الارتفاع. على
سبيل المثال، في المملكة العربية السعودية، يقدّر أن أكثر من 9 في المئة
من إجمالي الطاقة الكهربائية السنوية يستهلك لإنتاج الماء فقط، أي استخراج
المياه الجوفية والتحلية. يضاف إلى ذلك ما يستهلكه لاحقاً نقل المياه
وتوزيعها ومعالجتها وإعادة استعمالها.
من ناحية أخرى، المياه لازمة لإنتاج الطاقة، وإن بكثافة أقل، من خلال
مشاريع الطاقة الكهرمائية والمحطات المشتركة لإنتاج الكهرباء وتحلية
المياه، ولأغراض التبريد، وللتنقيب عن موارد الطاقة وإنتاجها وتكريرها
وعمليات استرجاع النفط المعزّزة، بالإضافة إلى العديد من التطبيقات الأخرى.
عزّزت ندرة المياه العذبة في المنطقة العربية تكنولوجيا التحلية
والإنتاج المشترك للكهرباء والماء، خصوصاً في بلدان مجلس التعاون الخليجي.
وتعتبر التحلية، لا سيما في المحطات المشتركة لتوليد الكهرباء وتحلية
المياه، عملية كثيفة الاستهلاك للطاقة. ونظراً إلى ضخامة حجم السوق والدور
الاستراتيجي للتحلية في المنطقة العربية، فإن تركيب قدرات جديدة سيزيد
الاستهلاك الإجمالي للطاقة. وبما أن إنتاج الطاقة يقوم أساساً على الوقود
الأحفوري، وهو مصدر محدود، فمن الواضح أن هناك حاجة إلى تطوير مصادر الطاقة
المتجدّدة لتزويد محطات التحلية بالطاقة. وفي غضون ذلك، ولمعالجة المخاوف
المتعلّقة بانبعاثات الكربون، على الحكومات العربية ربط أي توسّع مستقبلي
في قدرات التحلية بالاستثمارات في مصادر الطاقة المتجدّدة المتوافرة بغزارة
في المنطقة.
وثمة حاجة ملحّة إلى التعاون بين البلدان العربية لتعزيز التنسيق
والاستثمار في مجال الأبحاث والتطوير في تكنولوجيات التحلية والمعالجة.
وسيساعد امتلاك هذه التكنولوجيات وتوطينها في تخفيض كلفتها وزيادة
موثوقيتها كمصدر للمياه، ورفع قيمتها المضافة إلى اقتصادات البلدان،
بالإضافة إلى تخفيف آثارها البيئية. ويجب إيلاء اهتمام خاص لمصادر الطاقة
المتجدّدة والمأمونة بيئياً، وأهمها الطاقة الشمسية التي تحمل إمكانيات
هائلة نظراً إلى أن معظم المنطقة العربية تقع ضمن «الحزام الشمسي» للعالم.
ويقدّر أن البلدان العربية، لو استخدمت 5 في المئة من صحاريها لإقامة محطات
طاقة شمسية مركّزة، تستطيع تلبية احتياجات العالم كله من الطاقة.
المطلوب تخطيط وأبحاث
على رغم هذه العلاقة القوية، لم يتم تناول التلازم بين المياه والطاقة
أو أخذه في الاعتبار بشكل واف في التخطيط لهذين الموردين وإدارتهما في
العديد من البلدان العربية. ولكن مع تزايد ندرة المياه، بدأت بلدان عربية
كثيرة تدرك الأهمية المتزايدة لهذه العلاقة التي أصبحت الآن بؤرة اهتمام،
سواء في تحديد المشكلة أو في البحث عن حلول عبر الاختصاصات والقطاعات.
هناك ندرة واضحة في الأبحاث والدراسات العلمية في مجال العلاقة
التلازمية بين المياه والطاقة وأوجه الاعتماد المتبادل بينهما وقيمتهما
المشتركة، ما أحدث فجوة في المعرفة بشأن هذه العلاقة في المنطقة. وتتركّز
معظم الأبحاث المتوافرة على تخفيض كلفة التحلية من ناحية استهلاك الطاقة،
وثمة أبحاث محدودة تتعلق بالسياسات والتخطيط والإدارة.
ونظراً إلى أن تغيّر المناخ جزء ضمني من التلازم بين المياه والطاقة،
فإن الأبحاث العلمية حول هذا التلازم يجب أن ترتبط بالآثار المستقبلية
لتغيّر المناخ. والواقع أن الخطاب المتعلق بالاحترار العالمي هو الذي فتح
العيون على جانب كبير من الصلات المتلازمة بين هذين الموردين.
ومن الضروري تشجيع مؤسسات الأبحاث والجامعات على توجيه برامجها نحو
فهم أوجه التلازم والاعتماد المتبادل والارتباطات البينية. فمن دون توافر
هذه الأبحاث والدراسات، لا يمكن مواجهة تحديات العلاقة التلازمية وإيجاد
حلّ فعّال لها، ولا يمكن تحويل هذه التحديات إلى فرص في مجالات مثل زيادة
كفاءة استخدام المياه والطاقة، وتوفير المعلومات حول الخيارات التكنولوجية،
وزيادة التوافق بين سياسات المياه والطاقة، وتفحّص تلازم الأمن المائي
والطاقوي.
ترابط الماء والغذاء
يمثّل الترابط بين الماء والغذاء علاقة تلازمية أخرى في البلدان
العربية. وفي ظل الوضع الحالي غير المستقر للأمن الغذائي (حيث تقلّب أسعار
الطاقة، وضعف المحاصيل، وارتفاع الطلب نتيجة النموّ السكاني، واستخدام
الوقود الحيوي، وحظر الصادرات، كلها أدت إلى ارتفاع الأسعار)، تواجه قدرات
البلدان العربية على إطعام سكانها المتزايدين تحدياً شديداً نتيجة التنافس
على مصادر المياه المتناقصة.
وتشهد الزراعة حالياً عوائق نتيجة التنافس بين القطاعات على مصادر
المياه المتوافرة. ويستأثر القطاع الزراعي بنحو 85 في المئة من المياه
العذبة في المنطقة العربية، حيث تستخدم بكفاءة تقل عن 40 في المئة. ولا
تتوقف أهمية هذا القطاع على إنتاج الغذاء، وإنما يوظف قوة عاملة كبيرة من
السكان الريفيين. ومع ذلك فإن مساهمة الزراعة في الناتج المحلي منخفضة
جداً. لذلك تتعالى الأصوات الداعية إلى تحويل موارد المياه عن الزراعة
لتلبية الطلبات الملحّة للقطاعين الصناعي والبلدي، تبعاً لمقولة تحقيق
إنتاجية مرتفعة في مقابل كل قطرة. ولذلك تبعات سلبية واضحة جداً على القطاع
الزراعي والسكان الريفيين. غير أن تحسين كفاءة الري يمكن أن يحرّر الماء
لاستخدامات أخرى. وقد بُحثت جميع هذه القضايا بالتفصيل في تقرير المنتدى
العربي للبيئة والتنمية «المياه: إدارة مستدامة لمورد متناقص» حول المياه
في المنطقة العربية.
إن البلدان العربية، ككيانات منعزلة، هي بعيدة عن امتلاك ما يكفي من
المياه لزراعة الأغذية الأساسية الكافية. لذلك جرى التخلّي عن فكرة
الاكتفاء الذاتي بأي كلفة، التي سادت في سبعينات وثمانينات القرن العشرين.
فهذه الفكرة لم تعد عقلانية أو مستدامة، بل إن المنطقة تستورد مزيداً من
الأغذية لتلبية احتياجاتها. وجاء في تقرير للبنك الدولي عام 2009 أن
المنطقة تستورد أكثر من نصف السعرات الحرارية (كالوري) التي تستهلكها، وأن
هذه النسبة سترتفع إلى 64 في المئة خلال العقدين المقبلين.
وكانت دراسة في منتصف تسعينات القرن العشرين كشفت أن واردات المنطقة
من الأغذية كانت تعادل 83 بليون متر مكعب من المياه الافتراضية، أو نحو 12
في المئة من موارد المياه المتجدّدة السنوية في المنطقة. وكشفت الدراسة
نفسها أن النسبة المئوية أعلى كثيراً في بلدان مختارة: الجزائر 87 في
المئة، مصر 31 في المئة، الأردن 398 في المئة، ليبيا 530 في المئة،
السعودية 580 في المئة. ومع ارتفاع أعداد السكان وتحسن أنماط المعيشة،
يتوقّع المرء أن تكون هذه الأرقام أعلى بكثير اليوم.
نحو أمن غذائي عربي
ثمة سياسة أفضل لمقاربة الأمن الغذائي الوطني هي تحسين الإنتاج
الزراعي، وتعظيم إنتاجية المياه، والاعتماد على تجارة المياه الافتراضية في
الواردات الغذائية. فباستيراد المحاصيل المسرفة في استهلاك الماء، لا
تتحققّ وفورات في المياه المحلية فحسب، وإنما وفورات في الطاقة أيضاً من
خلال تخفيض سحب مياه الري من المكامن العميقة. وهذا مهم لكثير من البلدان
العربية التي تستخدم طاقة كثيفة لسحب المياه الجوفية، مثل بلدان مجلس
التعاون الخليجي. ويمكن تخفيف حدة هذه التحديات بتعزيز التعاون الإقليمي
العربي في إنتاج الغذاء.
الأمن الغذائي العربي قابل للتحقيق من خلال التكامل الزراعي الإقليمي
الذي يجمع المزايا النسبية المقارنة لجميع البلدان العربية، مثل موارد
الأرض والماء، والموارد البشرية، والموارد المالية. ويمكن تنفيذ مشاريع
زراعية مشتركة من أجل تحقيق الأمن الغذائي للمنطقة بأكملها، باستخدام
أساليب زراعية متقدّمة، مدعومة ببرامج البحث والتطوير الفاعلة في الإنتاج
الزراعي، بالإضافة إلى الحوكمة الفعالة للأراضي والمياه.
في نيسان(أبريل) 2008، في مسعى موحّد لمعالجة الأزمة الغذائية
الراهنة، أصدرت البلدان العربية «إعلان الرياض لتعزيز التعاون العربي
لمواجهة أزمة الغذاء العالمية» من خلال المنظمة العربية للتنمية الزراعية.
ويدعو الإعلان إلى خطط تجارية واستثمارية سليمة لتعزيز الأمن الغذائي على
المديين القصير والطويل، عبر شراكات بين القطاعين العام والخاص وتعزيز
التجارة الزراعية العربية البينية.
وقد توصلت التقارير السنوية للمنتدى العربي للبيئة والتنمية بشأن
المياه (2010) والاقتصاد الأخضر (2011) والبصمة البيئية (2012) إلى خلاصة
مماثلة بشأن فوائد رفع كفاءة الري، وزيادة إنتاجية المحاصيل، بالترافق مع
التعاون الإقليمي، كوسيلة لتعزيز الأمن الغذائي. ■
الموضوع السابق:نيودلهي المدينة الكبرى الأكثر تلوثاً فى العالم