الهجرة: migration، والهِـجْـرة أو الهُـجْـرة أو المُهاجرة هي الخروج
من موطن (أو موضع أو بلد) إلى آخر. والمهاجر migrant هو من يفعل ذلك. والمَهْـجَر هو الموضع الذي يتم الخروج إليه.
فالمشترك بين هذه المعاني الثلاثة هو مفهوم التغيّـر أو التحوّل أو الانتقال بين
حالين مختلفتين.
والهجرة
مفهوم لا يقتصر على الإنسان؛ بل يتجاوزه إلى عالم الحيوان والحشرات حتى النبات
والجماد. فيُطلق في الطب مثلاً على الكُلْيـة التي غادرت مكانها المعروف أو
المعتاد في الجسم البشري اسـم «الكليـة المهاجرة». ويستعمله علماء الفلك لوصف حركة
أجرام فضائية تخرج عن مساراتها متجوّلـة في الفضاء الكوني، كما تتسع دائرة استعمال
مصطلح «الهجرة» لتشمل هجرة العقول والأفكار والأموال وانتقالها بين المجتمعات، لكن
هجرة الحيوان كالطيور والأسماك والحشرات هي وحدها التي تحظى بالنصيب الأكبر في
البحث من دون سائر أشكال الهجرة غير الإنسانية.
يصنّف علم
الأحياء أشكالاً متعددة لهجرة الحيوان كالدورية والموسمية والعرضية، والقصيرة
الأمد والطويلة الأمد، والعابرة للقارات أو ذات النطاق المكاني المحدود، والهجرة
التي تتم وتنجز ضمن حياة جيل واحد، وتلك العابرة للأجيال؛ أي التي تتعاقبها أجيال
متتابعة إذ يتابع الجيل اللاحق المسيرة من حيث انتهى إليه الجيل السابق. ولهذا
تعدّ هجرة الحيوان ضرباً من تكيّف الكائن الحي مع ذاته ومحيطه، وتفسر في ضوء
ترابطها مع تغيّرات خارجية بيئية ومناخية تتساوق في الآن ذاته مع تغيرات داخلية
فيزيولوجية. ولا شك في أن العلوم الاجتماعية قد أفادت في دراستها للهجرة البشرية
من مباحث علم الأحياء في الهجرة الحيوانية، ولاسيّما من حيث النهج الموضوعي المتبع
في البحث.
فعلى صعيد
الهجرة الإنسانية يلاحظ في كل آن سيل من الناس المتنقلين من مكان إلى آخر على سطح
الأرض، كالسياح والرحّل والمسافرين واللاجئين والنازحين والمنفيين وطالبي اللجوء
السياسي والمهاجرين. فالهجرة هي انتقال الناس في المكان (الحركة الجغرافية أو
المكانية التي تنطوي على تغيير المهاجر مكان إقامته مستبدلاً الجديد بالقديم).
وتقتضي الهجرة عبور منطقة إقليمية إلى أخرى، وكلتاهما محددتان إدارياً كما هي حال
الهجرة الداخلية، أو محددتان سياسياً كما هي حال الهجرة الخارجية أو الدولية. فإن
كان هذا الانتقال موافقاً للقوانين والتعليمات الإدارية في المنطقتين كانت الهجرة
شرعية (قانونية)؛ وإلا فهي هجرة غير شرعية. وثمّ أشكال متعددة للهجرة الداخلية:
كالهجرة من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية أو هجرة سكان المدن الكبرى إلى
الضواحي أو إلى الأماكن الريفية، أو الهجرة بين المدن أو بين المناطق الريفية.
يُطلق على
مغادرة المهاجرين المنطقة الإقليمية التي تعدّ جهة المنشِأ اسم الهجرة المغادرة emigration، في حين يُطلق على قدوم المهاجرين إلى المنطقة
الإقليمية التي تمثّل جهة المستقر اسم الهجرة القادمة immigration. ويُميّـز بين الهجرة الدائمة والهجرة المؤقتة تبعاً لأمد إقامة
المهاجر في المكان الجديد الفعلي أو المنوي قضاءه الذي يتحدد بمدة لا تقل عن شهر
ولا تزيد على سنة في الهجرة المؤقتة، في حين يتحدد بعام أو أكثر في الهجرة
الدائمة. وتوجد هجرات فردية وأخرى جماعية حسب الأسلوب الذي تتم به. ويُميّـز بين
أشكال الهجرة تبعاً لتمييز أنواع المهاجرين، مثل هجرة العقول أو الكفاءات، وهجرة
العمال، وهجرة الفلاحين، وهجرة أناس من قوميات معينة.وتكون أغلب الهجرات طوعية voluntary، وقد تكون قسرية forced، تأخذ القسرية في أعم حالاتها الأسلوب الجماعي، ومن أشكالها
المعاصرة تهجير السكان من أماكن تُقام فيها مشروعات اقتصادية كبرى، كالسدود والطرق
العامة، ومنها أيضاً المحاولات الجارية في بعض دول «الشمال» الرامية إلى إعادة
المهاجرين غير الشرعيين إلى بلدانهم الأصلية، لكن لا يطلق مصطلح «المهاجرين» على
اللاجئين أو النازحين أو المنفيين أو اللاجئين السياسيين؛ إذ توجد لهؤلاء قوانين
مختلفة عن قوانين الهجرة، تنظم شؤونهم.
تمثل الهجرة
الإنسانية أحد المباحث الأساسية في ميدان العلوم الاجتماعية؛ لما لها من تأثيرات
مهمة وواسعة الطيف في الظواهر التي يدرسها كلّ من هذه العلوم. ينظر علم الاجتماع
إلى الهجرة بوصفها سلوكاً إنسانياً يندرج في إطار عملية التكيّف الاجتماعي الرامية
إلى بقاء الجماعة الإنسانية
والجنس البشري وتطورهما، وبوصفها عامل حراك اجتماعي social mobility وثقافي يسهم في تغيّر القيم والعادات والنظم الاجتماعية. وتشير
الهجرة في كل من علم التاريخ وعلم الإنسان إلى حدوث
هجرات بشرية كبرى كان وقعها عظيماً على مسار تطور الحضارة. ويتركز اهتمام علم
الاقتصاد على العمالة المهاجرة وهجرة الكفاءات وتحويلات المهاجرين وتأثيرات الهجرة
في بنى كل من العرض والطلب
والإنتاج والاستهلاك والاستثمار، كما أن الهجرة موضوع أساس في الجغرافيا البشرية
لما لها من دور فاعل في شغل الناس للمكان وتوزّعهم على رقعته الجغرافية وانتشار
آثارهم وفعالياتهم فيه، وتشغل الهجرة حيزاً كبيراً في علم السكان demography أيضاً من خلال إرسائه المنهج العلمي والموضوعي لدراستها، وقياسها وتحليلها والكشف عن أسبابها ونتائجها.
ويلفت
الأنظار في الزمن الحاضر الجانبان الحقوقي والسياسي للهجرة بسبب النقاش الدائر على
مستوى دول العالم ومنظمة الأمم المتحدة وجماعات حقوق الإنسان حول قضايا اللجوء السياسي ومشكلات اللاجئين الدوليين الذين تزايدت أعدادهم
وتفاقمت محنتهم على المستوى العالمي؛ وبسبب تيار الهجرة الجاري بين دول «الجنـوب»
ودول «الشمال»، وما يلحق به من مشكلات. وثمّ توجّهات معاصرة تميل اليوم إلى تقييد
الهجرة؛ في حين تميل توجّهات أخرى نحو إطلاقها ورفع القيود عنها بوصفها حقاً من
حقوق الإنسان، تكفله شرعة حقوق الإنسان، وتحميه منظومة من القوانين والاتفاقيات.
ويلاحظ اليوم ميل حثيث من حكومات العالم نحو تقييد الهجرة أو إيقافها أو تنظيمها
وضبطها.
تُعدّ الهجرة
أحد العناصر الحركية (الدينامية) في المنظومة السكانية، التي تقلّد عامل الخصب (أو
المواليد) من حيث إدخال أفراد إنسانيين جدد إلى المنظومة السكانية. كما تقلّد عامل
الوفاة من حيث إخراج عناصر إنسانية من المنظومة السكانية. وللهجرة تأثيرات كبرى
مباشرة وغير مباشرة في كل من حجم السكان ومعدلات نموهم وتوزيعهم الجغرافي وكثافتهم
واكتظاظهم؛ إذ تزيد الحجم أو الكثافة هنا أو تقللهما هناك، وتؤثّر الهجرة أيضاً في
البنى السكانية الجنسية والعمرية والزواجية والتعليمية والإثنية والمهنية، لأن
الهجرة انتقائية بالنسبة إلى كل من الجنس والعمر والحالة الزوجية والحالة
التعليمية والمهنية، إذ إن معظم المهاجرين في الزمن الحاضر هم من الذكور والشباب
والعزّاب والمتعلمين ذوي التخصصات العالية وأصحاب المهن الفنية أو النادرة.
تتنوّع
الآراء حول التأثيرات الاقتصادية للهجرة، فمن قائل بأهمية التحويلات الاقتصادية
للمهاجرين بالنسبة إلى اقتصاد بلد المنطلق، ودورها في تحسين فرص الدخل والاستثمار؛
إلى المقلّل من أهميتها بوصفها تشيع ثقافة الاستهلاك في المجتمع وتنصرف عن الاستثمار إلى الإنفاق الترفي؛ فالقائل بخسارة بلد المنشأ
الناتجة من حرمانه من قوة عمل أنفق على تأهيلها وتدريبها لينتفع بها
غيره.
يتجمع
المهاجرون في المهجر- كما هو معلوم - في مجموعات منعزلة نسبياً، تُدعى جاليات،
محتفظين بثقافة مجتمعهم الأصلي وعاداته الاجتماعية. وقد ينجح المجتمع الجديد بإدماجهم ضمن بنيانه الثقافي والاجتماعي، مكوّنين ثقافة فرعية
متآلفة مع الثقافة الكلية
للمجتمع، فلا يمثلون خطراً على وحدته الاجتماعية وأمنه القومي؛ بل يسهمون في إثراء
تنوعه الثقافي والاجتماعي، وكسر حالة الركود الثقافي والاجتماعي فيه، وتنشيط
الحراك المجتمعي. ويصح هذا الأمر على نحو خاص إذا كان المهاجرون ذوي نوعية عالية
الجودة، وإذا لم يناصبهم المجتمع الجديد الاستهجان والتمييز والعداء، لكن قد يخفق المجتمع الجديد في إدماج المهاجرين إليه في بنائه الثقافي والاجتماعي والسياسي،
ويحدث هذا غالباً في ظل حساسية المجتمع الجديد
نحوهم وتحامله عليهم ومعاناتهم التمييز والاضطهاد والفقر، فيتحوّلون عندئذ إلى
أقلية منعزلة ذات ثقافة فرعية مضادة للثقافة الكلية مكوّنة تهديداً حقيقياً لوحدة المجتمع وأمنه.
ويتحدث خبراء
التنمية عن أهمية الهجرة في كسر الركود الاجتماعي وفي التنشيط المجتمعي بصفة عامة،
وخاصة بالنظر إلى الدور الفاعل الذي تقوم به الجاليات الصينية في انطلاق التنمية
وتسريع وتائرها في بعض بلدان جنوب شرقي آسيا، وهذا يصدق أيضاً على هجرة الريفيين
إلى المدن؛ إذ يسهمون في عمرانها وتنميتها وتنشيط الحياة فيها، بل تحقيق تفوّقها
على سائر المناطق الأخرى على الرغم من وجود بعض المظاهر السلبية.
تعمل معظم
المجتمعات الحديثة على إيجاد مؤسسات للهجرة تُعنى بتنظيمها ومتابعتها وإجازتها
وضبطها، ورسم سياسات وخُطَط لها. ويدعى المجتمع الذي يتلقى
تيارات الهجرة «المجتمع المفتوح»،
في حين يُدعى من لايتلقى هذه التيارات «المجتمع المغلق».
وقد سجل التاريخ حدوث هجرات كبرى، كانت كبيرة بحجمها وسعة تأثيرها، كهجرة القبائل
العربية من جنوبي شبه الجزيرة العربية ووسطها إلى شماليها أو إلى شمالي إفريقيا
التي حدثت في أوقات متفرقة أومتعاقبة في الماضي، أو هجرة الأوربيين في الزمن
الحديث والمعاصر وانتشارهم الواسع في العوالم الجديدة (الأمريكيتين وأستراليا).
التحديدات
الإحصائية للهجرة وأغراض الدراسة العلمية:
تتطلع
الدراسات العلمية للهجرة إلى فهم هذا السلوك الإنساني عن طريق جمع المعطيات عنها
وتحليلها وقياسها وتعرّف مستوياتها ومسارات تطورها وأسبابها ونتائجها وتوقع مآلها.
ولامناص من الاعتراف بصعوبة بناء نظريات أو نماذج قادرة على وصف سلوك الهجرة أو
تفسيرها وتوقع أوضاعها المستقبلية بدقة؛ لأنها ظاهرة كثيرة التقلب، يشهد سيرها
طفرات وفترات نشاط أو ركود بعيدة عن الاتساق؛ ولأنها تتحدد بعوامل كثيرة يتعذر
ضبطها مثل إرادات الأفراد ورغباتهم وتصوراتهم. وتقتضي منهجية هذه الدراسات العلمية
جمع معطيات أمينة وذات مصداقية عن الهجرة، ثم القيام بتحليلها واستخلاص
الاستنتاجات المناسبة منها.
ترصد معطيات
(data) الهجرة واقعات الهجرة مبيّنة حدوثها ومكانها
وزمانها ومنطلقها ووجهة قصدها وخصائص المهاجرين. وتوجد ثلاثة مصادر أساسية لمعطيات
الهجرة: التعدادات العامة للسكان، والمسوح أو البحوث الاجتماعية الخاصة، وإصدارات
مراكز الهجرة ومنافذ العبور البرية والبحرية والجوية أو وثائقهم. يبيّن المصدران
الأوليان الرصيد المخزون والمتراكم للهجرة، ويُعرّف المهاجر بحسبهما أحياناً بكونه
الشخص الذي اختلف مكان إقامته عن مكان ولادته، ويُعرّف في أخرى بكونه الشخص الذي
يوجد له مكان إقامة سابق مختلف عن مكان إقامته الحالي، ويمكّن هذا من معرفة العدد
المطلق للمهاجرين ونسبتهم إلى مجموع السكان.
أما المصدر
الثالث (بيانات مراكز العبور) فتساعد معطياته على قياس الحساب الجاري للهجرة؛ إذ
يمكن تحديد عدد المهاجرين المغادرين أو المهاجرين القادمين ثم حساب نسبتهم إلى
مجموع السكان أو إلى كل ألف منهم، أو حساب معدلهم السنوي، ويمكن استخراج صافي
الهجرة بطرح عدد المغادرين من عدد القادمين (أو بطرح النسبتين أو المعدّلين). وثمّ
طريقة غير مباشرة
لحساب صافي الهجرة أو معدّلها تغني عن الاستعانة بمراكز العبور، تقوم على حساب
الفرق بين معدل النمو السكاني
العام ومعدل النمو الطبيعي.
لعل أشهر
النظريات التي تفسّر ظاهرة الهجرة هي تلك التي تردّها إلى ثلاث مجموعات من
العوامل: عوامل النبذ؛ أي الطاردة للسكان في بلد المنطلق كالفقر والاستبداد والفوضى، أو الحروب والفتن سواء أكانت موجودة وجوداً موضوعياً
أم كانت متصورة، وعوامل الجذب في بلد القصد الموضوعية أو المتصورة، وعوامل الصعوبات والتسهيلات المتوافرة.
لكن هذا النموذج التفسيري
يناسب الهجرة الطوعية، أما الهجرة القسرية فتفسّرها إرادة الغالب وظروف المغلوب.
هاني عمران
المـراجع
ـ الأمم المتحدة، اللجنة
الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، المعجم الديموغرافي متعدد اللغات.
ـ رولان بريسا، «التحليل
السكاني: المفاهيم، الطرق والنتائج، ترجمة محمد رياض رمتع (ديوان المطبوعات
الجامعية، الجزائر 1985).
إسم الملف | نوع الملف | حجم الملف | التاريخ | تحميل |
الهجـرة | 114.34 KB | 13/04/2014 | ||
جميع الحقوق محفوظة عثمان ادشيشي © 2014
|