الجمعة، 31 يناير 2014

الغباء: لماذا يرتكب الناس الحماقات؟

يتنوع الذكاء البشري بصورة مدهشة، لكن لماذا لم يجعلنا التطور جميعًا عباقرة، ولماذا يتصرف من يتمتعون بمعامل ذكاء مرتفع كالحمقى؟
 كتب الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير: «للأرض حدود، لكن لا حدود للغباء البشري»، وهي حقيقة كادت تفقده عقله؛ إذ كانت خطاباته المتعددة إلى لويز كوليه — الشاعرة الفرنسية ومصدر الإلهام لروايته «مدام بوفاري» — مليئة بانتقادات مثيرة لزملائه الحمقى. فقد كان يرى الغباء في كل مكان، بدءًا من ثرثرة متطفلي الطبقة الوسطى وانتهاءً بمحاضرات الأكاديميين، بل إن حتى فولتير لم ينجُ من انتقاداته. ومع استحواذ هذا الهاجس على حياته، كرَّس فلوبير سنواته الأخيرة لتجميع آلاف النماذج لكتابة ما يشبه موسوعة عن الغباء. إلا أنه توفي في عمر ٥٨ عامًا قبل أن يتم أعظم إبداعاته، ويرجع البعض وفاته المفاجئة إلى الإحباط الذي لاقاه أثناء بحث مادة الكتاب. 

قد يبدو توثيق حجم الغباء البشري في حد ذاته فعلًا من أفعال الحمقى، مما قد يفسر سبب تركيز الدراسات التي تناولت العقل البشري على الطرف المقابل من نطاق الذكاء. ومع ذلك، فإن اتساع هذا النطاق بشدة يطرح العديد من الأسئلة المثيرة للاهتمام. فعلى سبيل المثال، إذا كان الذكاء حقًّا ميزة مبهرة، فلماذا لم نصبح كلنا أذكياء بنفس الدرجة؟ أو هل توجد عيوب للذكاء مما يجعل الغلبة لبطيئي التفكير في بعض الأحوال؟ ولماذا يكون أذكى الناس معرَّضين رغم ذلك للتصرف بغباء؟
لقد اتضح أن القياسات المعتادة للذكاء — لا سيما معامل الذكاء — ترتبط ارتباطًا ضئيلًا بنوع التصرفات غير العقلانية وغير المنطقية التي طالما أثارت غضب فلوبير، فقد يتمتع الشخص حقًّا بذكاء عالٍ لكنه يتسم في الوقت ذاته بالغباء الشديد. إن إدراك العوامل التي تدفع الأذكياء إلى اتخاذ قرارات سيئة بدأ يلقي الضوء على عدد كبير من أضخم الكوارث المجتمعية، من ضمنها الأزمة الاقتصادية الأخيرة، والأكثر إثارة للاهتمام هو أن أحدث الأبحاث قد تقترح طرقًا لتجنب هذا الوباء الذي يمكن أن يجتاحنا جميعًا.
مما يدعونا للدهشة أن فكرة اعتبار الذكاء والغباء مجرد طرفين متقابلين لنطاق واحد هي فكرة حديثة. ففي عصر النهضة، صوَّر عالم اللاهوت إيرازموس «الحماقة» — أو «ستولتيتيا» باللاتينية — كشخصية مستقلة في حد ذاتها من نسل إله الثروة وحورية الشباب، بينما رآها آخرون مزيجًا من الكبر، والعناد، والزيف. ولم يختلط مفهوم الغباء مع معدل الذكاء المتوسط إلا في منتصف القرن الثامن عشر، كما يذهب المؤرخ الهولندي ماتايس فون بوكسيه الذي كتب عدة كتب عن الغباء، فيقول: «في هذا العصر تقريبًا، صعدت الطبقة الوسطى إلى الحكم، وأصبح المنطق هو العرف الجديد مع حلول عصر التنوير؛ مما جعل كل امرئ سيد مصيره.»
نزعت المحاولات الحديثة لدراسة الاختلافات في القدرة البشرية إلى التركيز على اختبارات معامل الذكاء التي تحدد رقمًا واحدًا يعبر عن قدرة الفرد العقلية. ووفقًا لريتشارد نيسبيت — عالم النفس بجامعة ميشيجان بمدينة آن أربور — يُعترَف بتلك الاختبارات في معظم الأحوال كمقياس للاستدلال المجرد، مضيفًا: «إذا كان معامل ذكائك ١٢٠ فمن السهل عليك تعلم حساب التفاضل والتكامل، وإذا كان ١٠٠ فيمكنك تعلمه لكن عليك أن تحفز نفسك لبذل جهد كبير في ذلك، أما إذا كان معامل ذكائك ٧٠ فلا فرصة أمامك لاستيعاب حساب التفاضل والتكامل.» يبدو إذن أن هذا المقياس يتنبأ بالنجاح الأكاديمي والمهني.
ستحدِّد عوامل متنوعة موقعك على مقياس معامل الذكاء. وعلى الأرجح، يرجع ثلث الاختلاف في ذكائنا إلى البيئة التي نشأنا بها — من حيث التغذية والتعليم مثلًا — في حين تساهم الجينات بما يزيد عن ٤٠٪ من الاختلافات بين أي شخصين.
تتجلى تلك الاختلافات في التوصيلات العصبية بالدماغ؛ إذ يبدو أن أذكى العقول تتمتع بشبكات أكثر كفاءة من الوصلات بين الخلايا العصبية. وتقول جيني فيريل — عالمة النفس بجامعة غرب إنجلترا في مدينة بريستول — إن هذا قد يحدِّد حجم قدرة الفرد على استخدام ذاكرته «النشطة» قصيرة الأمد للربط بين الأفكار المتباينة والوصول سريعًا إلى استراتيجيات حل المشكلات، مضيفة: «تمثِّل تلك الوصلات العصبية القاعدة البيولوجية لخلق روابط عقلية فعالة.»
أدى الاختلاف في معدلات الذكاء إلى تساؤل البعض عما إذا كان للقوة العقلية المتفوقة ثمنها، أو بالأحرى، لِمَ لم يجعلنا التطور جميعًا عباقرة؟ للأسف تنقصنا الأدلة اللازمة للرد على هذا السؤال. على سبيل المثال، اقترح البعض احتمال أن يكون الاكتئاب أكثر شيوعًا بين الأفراد الأكثر ذكاءً؛ مما يؤدي إلى معدلات انتحار أعلى، لكن لم تتمكن أي دراسة من دعم هذه الفكرة. فمن بين الدراسات القليلة التي زعمت وجود تأثير سلبي للذكاء اكتشفت إحداها أن احتمالات موت الجنود ممن يملكون معامل ذكاء مرتفعًا قد تزايدت أثناء الحرب العالمية الثانية، لكن كان التأثير هزيلًا، ومن المحتمل أن يكون هناك عوامل أخرى قد أدت لانحراف البيانات عن الدقة.

موات فكري

على صعيد آخر، قد ينتج الاختلاف في ذكائنا عن عملية تُدعَى «الانسياق الجيني»، والتي تلت تطويع الحضارة البشرية للتحديات التي تدفع عقولنا إلى التطور. ومن أبرز المناصرين لهذه الفكرة جيرالد كرابتري الأستاذ بجامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا؛ إذ يشير إلى اعتماد ذكائنا على قرابة ٢٠٠٠ إلى ٥٠٠٠ من الجينات الطافرة باستمرار. في الماضي السحيق، ما كان الأفراد الذين تسببت طفراتهم الجينية في إبطاء تفكيرهم ليبقوا على قيد الحياة كي ينقلوا جيناتهم، لكن كرابتري يقترح أنه مع اتجاه المجتمعات البشرية نحو المزيد من التعاون، تمكن بطيئُو التفكير من استغلال نجاح من يفوقونهم ذكاءً، ويزعم في الواقع أننا إذا انتزعنا أحد الأفراد من سنة ١٠٠٠ قبل الميلاد ووضعناه في المجتمع الحديث، فسيكون «من أذكي الأفراد وأكثرهم حيوية فكرية بين زملائنا ورفاقنا»، (تريندز إن جينيتيكس، المجلد ٢٩، صفحة ١).
يُطلَق على هذه النظرية غالبًا اسم فرضية «دولة الحمقى»؛ تيمنًا بالفيلم الذي يَتصوَّر مستقبلًا أنتجت فيه شبكة الأمان الاجتماعي نوعًا من الموات الفكري. ورغم وجود بعض المؤيدين لهذه النظرية إلا أنها لا تعتمد على أدلة وثيقة، فلا يمكننا تقييم ذكاء أسلافنا القدماء بسهولة، فضلًا عن أن متوسط معامل الذكاء قد ارتفع في الواقع ارتفاعًا طفيفًا في الماضي القريب، على أقل تقدير «يُدحَض هذا الخوف من أن الأفراد الأقل ذكاءً ينجبون مزيدًا من الأطفال، وبالتالي سينحدر معدل الذكاء القومي»، كما يعلق آلان بادلي عالم النفس بجامعة يورك بالمملكة المتحدة.
على أي حال، قد تحتاج هذه النظريات حول تطور الذكاء إلى إعادة تفكير جذرية في ضوء التطورات الأخيرة، والتي أدت إلى افتراض العديد من الناس وجود أبعاد أكثر لقضية التفكير البشري تتجاوز مقاييس معامل الذكاء. لطالما أشار منتقدو اختبارات الذكاء إلى سهولة انحراف نتائجها عن الدقة نتيجة لعوامل؛ مثل: عسر القراءة، والتعليم، والثقافة. فيقول نيسبيت: «سأفشل على الأرجح في اختبار ذكاء وضعه هندي من قبيلة السيوكس في القرن الثامن عشر.» وعلاوة على ذلك، ففي وسع من يحصلون على نتائج منخفضة تصل إلى ٨٠ نقطة تحدُّث عدة لغات، بل والاشتراك في عملية احتيال مالية معقدة، كما فعل أحد الرجال البريطانيين. وعلى النقيض من ذلك، لا يضمن معامل الذكاء المرتفع أن صاحبه سيتصرف بعقلانية، فلتنظر مثلًا إلى الفيزيائيين العباقرة الذي يصرون على أن نظرية التغير المناخي خدعة.
لقد كان هذا العجز عن تقييم الشواهد واتخاذ القرار السليم هو ما أثار حنق فلوبير لأقصى درجة، لكن على عكس الكاتب الفرنسي، يتجنب كثير من العلماء التحدث عن الغباء في حد ذاته؛ إذ يصفه بادلي بأنه «مصطلح غير علمي»، إلا أن إدراك فلوبير لقدرة الفجوات العميقة في المنطق البشري على اجتياح أذكى العقول أصبح يحظى الآن بالاهتمام، فيقول ديلان إيفانز عالم النفس والكاتب الذي يدرس العاطفة والذكاء: «يوجد أذكياء يتَّسمون بالغباء.»
كيف يمكن تفسير هذه العبارة المتناقضة ظاهريًّا؟ يقدم دانيال كانمان — عالم الإدراك بجامعة برينستون والفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد عن أعماله في مجال السلوك البشري — إحدى النظريات التي تفسر ذلك. لقد اعتاد الاقتصاديون على افتراض أن الناس عقلانيون بالفطرة إلا أن كانمان وزميله عاموس تفرسكي اكتشفا عكس ذلك؛ إذ وجدا أن في وسع عقلنا أثناء معالجة المعلومات استخدام نظامين مختلفين. تقيس اختبارات معامل الذكاء نظامًا واحدًا فحسب منهما؛ ألا وهو المعالجة المتروية التي تلعب دورًا محوريًّا في عملية حل المشكلات الواعية. ومع ذلك، فإن الوضع الافتراضي الذي نتبعه في حياتنا اليومية هو استخدام الحدس.
أولًا، تمنحنا آليات الحدس تلك ميزة تطورية، فهي تقدم لنا أساليب إدراكية سريعة لمساعدتنا في التعامل مع الحمل الزائد من المعلومات، وتتضمن هذه الأساليب تحيزات إدراكية مثل التنميط، والانحياز لما يؤيد معتقداتنا، ومقاومة الغموض؛ أي الانجذاب ناحية القبول بأول حل للمشكلة، حتى إن كانت عدم أفضليته واضحة.
وبينما قد تساعدنا تلك التحيزات التي تطورت — ويُطلَق عليها اسم «الطرق الاستدلالية» — في التفكير خلال مواقف محددة، فربما تؤدي إلى انحراف حكمنا عن الصواب إذا اعتمدنا عليها دون مراعاة قواعد التحليل النقدي. لهذا السبب، فإن العجز عن إدراك تلك التحيزات ومقاومتها هو أساس الغباء. تعلق فيريل على هذا قائلة: «لا يحوي العقل البشري زرًّا مكتوبًا عليه «سأستخدم أسلوب التنميط في تقييم المطاعم فحسب وليس البشر»، بل يجب عليك ترويض عقلك على هذا.»
وبما أن هذا الأمر لا علاقة له بمعامل ذكائك، فلكي نفهم الغباء البشري حقًّا سنحتاج إلى اختبار منفصل يقيس مدى قابليتنا للتحيز. يقدم عالم الإدراك كيث ستانوفيتش بجامعة تورونتو في كندا أحد الاختبارات المرشحة؛ إذ يعمل على وضع معامل العقلانية لقياس قدرتنا على تجاوز التحيز الإدراكي.
فلتتأمل السؤال التالي الذي يختبر تأثير الغموض: جاك ينظر إلى آن لكن آن تنظر إلى جورج. جاك متزوج لكن جورج غير متزوج. هل ينظر شخص متزوج إلى شخص غير متزوج؟ الإجابات المحتملة هي «نعم»، «لا»، «غير معروف». ستجيب الغالبية العظمى من الناس ﺑ «غير معروف» لأنها أول إجابة وردت في أذهانهم ليس إلا، لكن عند التأني في الاستنتاج يتضح أن الإجابة الصحيحة هي «نعم».
سيقيس معامل العقلانية كذلك ذكاء المخاطر، والذي يشير إلى قدرتنا على حساب أرجحية احتمالات معينة. على سبيل المثال: نحن نميل إلى المغالاة في تقدير فرص فوزنا باليانصيب والاستخفاف بفرص تعرضنا لتجربة الطلاق، كما يذهب إيفانز. وقد يدفعنا انخفاض معدل ذكاء المخاطرة إلى اختيارات سيئة دون أن ندرك ذلك على الإطلاق.
إذن ما الذي يحدد امتلاك المرء الفطري لمُعامل عقلانيةٍ عالٍ؟ وجد ستانوفيتش أن معامل العقلانية، على عكس معامل الذكاء، لا يتوقف على جيناتنا أو عوامل خاصة بالتغذية في طفولتنا، لكنه يعتمد قبل كل شيء على ما يُدعَى الإدراك فوق المعرفي، وهي القدرة على تقييم صحة إدراكك الخاص. فقد اكتسب الأفراد الذين يملكون معامل عقلانية مرتفعًا استراتيجيات تعزز هذا الوعي الذاتي، من بينها استراتيجية بسيطة تقتضي النظر إلى الإجابة البديهية التي توصلت إليها وتأمل عكسها قبل التوصل إلى قرار نهائي، وفقًا لستانوفيتش. ويساعد هذا على تطوير وعي ثاقب بما تدركه وما لا تدركه.
لكن حتى من يتمتعون فطريًّا بمعامل عقلانية مرتفع قد تعيقهم ظروف خارج سيطرتهم، كما توضح فيريل: «قد تكون لديك أنت قدرات إدراكية عظيمة، لكن البيئة المحيطة بك تملي عليك كيف تتصرف.»
والأدهى من ذلك، قد يكون التشتت العاطفي أبرز سبب للوقوع في الخطأ، كما قد علمت بنفسك على الأرجح؛ فمشاعر مثل الحزن أو القلق تربك ذاكرتك النشطة تاركة لك عددًا أقل من المصادر لتقيم العالم من حولك. ولمواجهة ذلك، قد تجد نفسك تتراجع نحو الطرق الاستدلالية كمخرج سريع وسهل. تضيف فيريل أن ذلك ربما يفسر أيضًا بعض التجارب الأكثر تكرارًا مثل «تهديد الصورة النمطية»، وهو الشعور بالقلق الذي من المحتمل أن ينتاب الأقليات عندما يدركون أن أداءهم قد يُنظَر إليه باعتباره تأكيدًا لتحيز قائم، ولقد اتضح مرارًا وتكرارًا تسببه في إتلاف نتائج الاختبار.
ربما لا يوجد ما يشجع على الغباء أكثر من الممارسات المتبعة في بعض المؤسسات كما لاحظ أندريه سبايسر وماتس ألفيسون. لم يكن أي منهم مهتمًّا بالغباء عندما اكتشفا ذلك، بل كان سبايسر — الباحث بكلية كاس للأعمال في لندن — وأليفسون — الباحث بجامعة لوند في السويد — يخططان لبحث كيفية إدارة المؤسسات الكبرى للأفراد الذين هم أعلى ذكاءً. لكن سرعان ما اضطُّرَّا إلى التخلص من أطروحتهما.
لاحظ الباحثان — مرارًا وتكرارًا — ظهور نفس النمط التالي: بعض المؤسسات — لا سيما بنوك الاستثمار، ووكالات العلاقات العامة، وشركات الاستشارات — تعيِّن أفرادًا على درجة عالية من الكفاءة، لكن بدلًا من الانتفاع بتلك المواهب كما يقول سبايسر «صُدِمنا بحقيقة أن الجوانب التي تدرب عليها هؤلاء الأشخاص على وجه التحديد عُطِّلت على الفور»، وهي ظاهرة صنفاها تحت اسم «الغباء الوظيفي».
بدت نتائجهما معقولة في سياق التحيز والعقلانية، كما يوضح سبايسر: «في البداية، لم نر نظريات كانمان كأساسٍ لبحثنا، لكننا بدأنا نلاحظ وجود روابط مثيرة للاهتمام مع نوعية الملاحظات التي اكتشفها في معمله.» على سبيل المثال، تعطل الممارسات المؤسسية بانتظام ذكاء المخاطر لدى الموظفين، يعلق سبايسر على هذا قائلًا: «لم تُوجَد أي علاقة مباشرة بين ما يفعلونه وبين النتيجة.» وبالتالي لا سبيل أمامهم للحكم على عواقب أفعالهم. كذلك تضخم ضغوط العمل في المؤسسات التحيز المرتبط بالغموض؛ إذ يضيف سبايسر: «في المؤسسات المعقدة يسود الغموض، وكذلك الرغبة في تجنبه بأي ثمن.»
قد تكون عواقب ذلك كارثية؛ ففي تحليل شامل نُشِر العام الماضي أعلن سبايسر وأليفسون أن الغباء الوظيفي كان مساهمًا مباشرًا في الأزمة المالية (جورنال أوف مانجمنت ستاديز، المجلد ٤٩، صفحة ١١٩٤). فيقول سبايسر: «أولئك الناس كانوا أذكياء بدرجة لا تُصدَّق، وكانوا جميعًا يعلمون بوجود مشاكل في السندات المضمونة برهن عقاري والسلع التجميعية.» ولم يقتصر الأمر على اعتبارها مشاكل لا تخصهم، بل كان الموظفون يتعرضون لإجراءات تأديبية إذا عبَّروا عن قلقهم، ربما لأنهم ظهروا بمظهر المتشكك في السلطة العليا. وكانت النتيجة هي تخلص الموظفين محتملي الذكاء الخارق من قواعد المنطق قبل دخول مكاتبهم.

جمهورية الغباء

في ضوء الانهيار الاقتصادي، قد تبدو هذه النتائج تأكيدًا لبعض مخاوف فلوبير حول قوة الأغبياء في مجموعات كبيرة، والتي أشار إليها ساخرًا بتعبير «جمهورية الغباء». تؤكد النتائج كذلك بعضًا من ملاحظات فون بوكسيه حول اعتبار الغباء أشد خطرًا بين الأفراد الذين يرتفع معامل ذكائهم، بما أنهم غالبًا ما يُكلَّفون بمسئوليات أكبر، فيقول: «كلما زاد ذكاؤهم، كانت نتائج غبائهم أفجع.»
قد يفسِّر هذا — من وجهة نظر ستانوفيتش — سبب مطالبة القطاع المالي «طوال سنوات» وبإلحاح بإجراء اختبار جيِّد لقياس العقلانية. في الوقت الحالي ليس بوسع اختبار العقلانية إعطاء نتيجة مؤكدة كالتي يعطيها اختبار معامل الذكاء؛ لأن على الباحثين مقارنة عدد ضخم من المتطوعين قبل أن يتمكنوا من تطوير مقياس ثابت يسمح بالمقارنة بين مجموعات مختلفة من الأشخاص. ورغم ذلك، قد اكتشف ستانوفيتش أن مجرد أداء هذا النوع من الاختبار يحسِّن وعينا بالاجتهادات الشائعة؛ مما قد يساعدنا على مقاومة إغرائها؛ لذا بدأ في شهر يناير عملية تطوير هذا الاختبار بفضل منحة لمدة ثلاث سنوات من مؤسسة جون تمبلتون.
أما ما إذا كان أحد سينهي العمل الذي بدأه فلوبير فهذا سؤال آخر؛ فلسوف يعتزل فون بوكسيه هذا المسعى بعد إنهاء كتابه السابع حول هذا الموضوع. لكن يبدو أن مكتبة الكونجرس الأمريكية قد اختارت — ربما دون قصد — استكمال المسيرة عبر قرارها بحفظ كل تويتة كُتِبت في العالم.
وبالنسبة لنا، قد يساعدنا إدراكنا لطبيعتنا الحمقاء على الهروب من قبضتها. وربما كان فلاسفة عصر النهضة مثل إيرازموس يدركون تمامًا قدرة الغباء على التحكم فينا؛ إذ تجد أسفل الصور التي رسمها لشخصية «الحماقة» أو «ستولتيتيا» الاعتراف التالي: «الحماقة تسيطر عليَّ.»