الجمعة، 29 نوفمبر 2013

تغير المناخ: الخيارات الأخلاقية

ستدوم آثار الاحتباس الحراري لمئات السنين. فما هي مسئولياتنا وواجباتنا اليوم للمساعدة في إنقاذ المستقبل البعيد؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه الآن علماء الأخلاق.
 ثمة سمة مميزة لتغير المناخ لا يقدِّرها معظم الناس حق قدرها؛ هذه السمة هي أنَّ ارتفاع درجات الحرارة والآثار الأخرى الناتجة عن تزايد مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي ستستمر لوقت طويل جدًّا. لطالما أدرك العلماء أن ثاني أكسيد الكربون المنبعث من احتراق الوقود الحفري يبقى عالقًا في الغلاف الجوي على الأرجح لفترات طويلة من الوقت، قد تصل إلى قرون. وعلى مدار السنوات القليلة الماضية، قدر الباحثون أن بعضًا من نتائج التغيرات التي طرأت على مناخ الأرض، بما في ذلك ارتفاع درجة الحرارة، أطول بقاءً من ثاني أكسيد الكربون؛ فحتى إن توقفت الانبعاثات فورًا، وبدأت مستويات ثاني أكسيد الكربون في الانخفاض تدريجيًّا، ستظل درجات الحرارة مرتفعة على نحو ثابتٍ لألف سنة أو أكثر. إن درجة حرارة الأرض آخذة في الارتفاع، وما من وسائل يمكن التنبؤ بها بسهولة لخفضها مرة أخرى؛ وحتى برامج الهندسة الجيولوجية المحفوفة بالمخاطر أفضل ما بوسعها هو تعديل درجات الحرارة المرتفعة على نحو مؤقت فحسب.
إن هذا الإدراك صادم بحق، خاصة مع الأخذ في الاعتبار مدى ضآلة ما أحرز من تقدم في إبطاء انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. لكن الطبيعة طويلة المدى للمشكلة على وجه التحديد هي التي تجعل من تقليل الانبعاثات في أقرب وقت ممكن — وبنحو جذري بقدر المستطاع — مهمة ملحة للغاية. ولكي تتاح لنا فرصة جيدة لتحقيق الهدف المعترف به على مستوى العالم والمتمثل في إبقاء درجة الاحترار عند ٢ درجة مئوية أو تحتها، يتعين أن تقلل الانبعاثات على نحو جوهري على مدار السنوات القليلة القادمة. بحلول عام ٢٠٥٠، يجب أن تكون هذه الانبعاثات قد قلَّت إلى النصف أو أكثر من مستوياتها عام ٢٠٠٩.
التفاوت بين الوقت الذي نحتاج فيه إلى التصرف، والوقت الذي ستتحقق فيه المكاسب يساعد على تفسير السبب في أن تغير المناخ يمثل مشكلة شائكة على المستويين السياسي والاقتصادي، فكيف يمكنك أن تقنع الشعوب والحكومات بالاستثمار في مستقبل بعيد؟ من الواضح أن هذه ليست بالمشكلة التي يمكن معالجتها بسهولة على يد معظم السياسيين، بالأخذ في الاعتبار الحاجات العاجلة والملحة لناخبيهم. ونظرًا لأن تصرفنا (أو عدمه) تجاه مشكلة تغير المناخ يتضمن تحديد مسئولياتنا تجاه الأجيال القادمة وإدراكنا لها، فإنه يقع حقًّا في نطاق الفلسفة الأخلاقية والسياسية.
على مدار السنوات القليلة الماضية، بدأ عدد صغير — لكنه متنامٍ — من الكُتَّاب في محاولة الإجابة عن بعض الأسئلة العميقة؛ ما هي المبادئ التوجيهية الأخلاقية التي ينبغي للخبراء الاقتصاديين اتباعها عند تقييم تكاليف الحاضر في مقابل مكاسب المستقبل؟ كيف ينبغي لنا أن نقيم الإشكاليات، بما في ذلك مخاطر التغيرات الكارثية الناجمة عن الاحتباس الحراري؟ هل ستكون الهندسة الجيولوجية حلًّا أخلاقيًّا؟ كيف يؤثر تغير المناخ على إدراكنا للعالم ودورنا المستقبلي فيه؟ جاءت الفروق بين الاستنتاجات التي خلصوا إليها طفيفة، ويمكن أن تتوقف على تعريفات لا يمكن للكثيرين تمييزها لمصطلحات مثل: «العدالة» و«المصلحة الأخلاقية». لكن منطقهم كثيرًا ما يقدم أفكارًا كاشفة في أكثر قضايا السياسة إلحاحًا اليوم. 
حتى وإن صار الناس أكثر ثراءً في المستقبل فقد يقلل تغير المناخ من جودة حيواتهم. 

القيمة المستقبلية

في كتابه «شئون مناخية: الأخلاقيات في عالم يواجه الاحترار»، يشرح جون بروم — أستاذ فلسفة الأخلاق في جامعة أكسفورد — الطرق والحجج التي تساعدنا في فهم التبعات الأخلاقية للاحتباس الحراري، ويوضح كيف أن هذا المنطق يمكن أن يقدم أفكارًا كاشفة مفيدة عن الكيفية التي ينبغي لنا التصرف بها. يولي بروم — الذي تلقى تدريبًا في الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا — اهتمامًا خاصًّا لتقييم الأحكام الأخلاقية التي يطلقها خبراء الاقتصاد. يقول بروم: «أدرك خبراء الاقتصاد، لنقل قبل خمسين عامًا مضت، أن الاقتصاد قائم على افتراضات أخلاقية؛ لكن عددًا منهم بدا أنه قد نسي ذلك خلال العقود الأخيرة. إنهم يعتقدون أن ما يفعلونه يقع على نحو ما في منطقة خارج نطاق الأخلاق. والأمر ليس كذلك بوضوح. وتغير المناخ خير دليل على ذلك.»
تتمثل إحدى أكثر القضايا إثارةً للجدل في التحليل الاقتصادي لسياسة تغير المناخ في كيفية الموازنة بين تكاليف إجراء التغييرات الآن، والمكاسب التي ستدركها الأجيال القادمة، أو الضرر الذي ستتجنبه. ويلمح بروم إلى أنه قد يُفترض أنه ينبغي لنا أن نفعل كل شيء بوسعنا فعله الآن، لكن هذا ربما يكون خطأً، لأن الإجراءات بالغة الجذرية قد يكون لها نتائج شديدة السلبية على من يعيشون اليوم، لدرجة أن أثرها سيظل ملموسًا لأجيال. يحاول بروم جاهدًا التوصل إلى كيفية موازنة تلك العوامل بطريقة مسئولة أخلاقيًّا، ويخلص إلى أن خبراء الاقتصاد — بوجه عام — محقون في تبني ما يسمى بتحليلات المكاسب والتكاليف لتقييم الإجراءات المتخذة لمجابهة تغير المناخ. لكنه يشدد على أن الافتراضات الأخلاقية التي تستند إليها هذه التحليلات شديدة الأهمية، وخبراء الاقتصاد غالبًا ما يتجاهلونها أو يسيئون فهمها.
تتمثل إحدى الأدوات الأساسية المستخدمة في تحليل المكاسب والتكاليف فيما يسميه خبراء الاقتصاد بمعدل الخصم، الذي يتيح وضع قيمة معينة اليوم في استثمار ما لن يأتي بعائد قبل تاريخ بعينه في المستقبل. وفقًا للمثال الذي ضربه بروم، إذا كان معدل الخصم هو ٦٪ في السنة، يمكنك شراء كمية معينة من الأرز الآن، لكنك ينبغي أن تدفع ٩٤٪ من السعر اليوم على أن يصلك الأرز خلال عام، أو أن تدفع ٨٣٫٠٦٪ إذا ما كان سيصلك خلال ثلاثة أعوام. الفكرة الأساسية هي أن الناس سيكونون أكثر ثراءً في المستقبل مع استمرار النمو الاقتصادي، ومن ثم فإن أي قدر من سلعة ما أو مبلغ من المال ستقل قيمته عما هي عليه الآن. وكلما زاد سعر الخصم، قلت القيمة المخصصة للسلعة المستقبلية.
إن الطريقة التي يحسب بها خبراء الاقتصاد معدل الخصم لها آثار مهوِّلة على سياسة الطاقة. في عام ٢٠٠٦، نشر نيكولاس ستيرن — خبير اقتصادي بارز في مدرسة لندن للاقتصاد وكبير الخبراء الاقتصاديين سابقًا في البنك الدولي — تقرير «اقتصاديات تغير المناخ»؛ وهو تقرير مؤثر نادى بالإنفاق الفوري والضخم (ونادى منذ فترة أقرب باستثمارات أكبر). وقد استخدم ستيرن معدل خصم منخفضًا على نحو غير معتاد يقدر ﺑ ١٫٤٪؛ مما أدى به إلى تحديد قيمة مرتفعة للمكاسب المستقبلية من استثمارات اليوم التي تهدف لمجابهة تغير المناخ. وقد هوجم ستيرن على الفور من عدد من الاقتصاديين الأكاديميين. الشيء الأبرز هو نشر كتاب «مسألة موازنة» لمؤلفه ويليام نوردهاوس من جامعة ييل، وقد جادل فيه بأن معدل الخصم ينبغي أن يكون حوالي ٥٪. ومن ثم خلص نوردهاوس إلى أن الإنفاق لمجابهة تغير المناخ ينبغي أن يكون أكثر تدرجًا إلى حد كبير، وأن جزءًا كبيرًا من الإنفاق ينبغي أن يؤجل لعقود عديدة.
بطبيعة الحال، يحسب خبراء الاقتصاد معدل الخصم من خلال استخدام أسواق المال لتحديد العائد المتوقع على رأس المال. والمنطق وراء ذلك هو أن السوق هو أكثر الأساليب ديمقراطية لتحديد القيمة. ولكن في حين أن هذه الممارسة يمكن أن تكون فعالة في توضيح قيم السلع، يرى بروم أن حساب معدل الخصم لإجراءات مكافحة تغير المناخ أكثر تعقيدًا إلى حد كبير. وأحد الأسباب هو أن الطريقة المعتادة لا تضع في الاعتبار بنحو وافٍ احتمالية أنه حتى لو أصبح الناس أكثر ثراءً في المستقبل، فإن تغير المناخ قد يقلل من جودة حيواتهم بطرق أخرى مهمة؛ ومن ثم فإنها لا تقدر الاستثمارات الحالية حق قدرها. وينتهي بروم إلى دعم معدل خصم مشابه لما اقترحه ستيرن.
ولكن نقطته الأهم، ببساطة أكثر، هي أن حتى مثل هذه التقييمات الاقتصادية الكمية يتعين أن تنطوي كليًّا على مبادئ أخلاقية.
معدل الخصم هو عبارة عن قيمة مكاسب الناس في المستقبل مقارنةً بقيمة مكاسبنا. إنه — أكثر من أي شيء آخر — يحدد ماهية التضحيات التي ينبغي للأجيال الحالية تقديمها من أجل المستقبل. إنه شأن أخلاقي.
يتأمل كذلك بروم في تداعيات طريقة تفكيرنا في المخاطر القصوى. يتفق معظم الناس على أن الاستثمار في تجنب عاقبة مزعجة أمر جدير بالعناء، حتى وإن كانت هذه العاقبة غير مرجحة. وهذا هو سبب شرائنا طفايات الحريق، ووثائق تأمين بيوتنا ضد الحرائق، حتى وإن كان احتمال اشتعال الحريق أمرًا غير وارد. لكن كيف ينبغي لنا تقييم القدرة على تجنب العواقب الكارثية غير المحتملة إلى حد كبير؟ بدأ بعض خبراء الاقتصاد الرواد في الجدل حول أن تلافي مجرد الاحتمال البعيد لوقوع مثل هذه العواقب ينبغي أن يكون الهدف الرئيسي لسياسة تغير المناخ. ومما لا يثير الدهشة دعوة بروم للاستعانة بمبادئ أخلاقية لتقييم مدى السوء الذي يمكن أن تكون عليه العواقب المختلفة، وإلى أي مدى ينبغي أن نركز على تجنبها. وهذا يعني اتخاذ قرارات صعبة بشأن قيمة الحياة البشرية وقيمة النظم الطبيعية؛ كما يعني تقدير مدى ما سيكون عليه الأمر من «سوء» إذا ما قلص تغير المناخ من تعداد البشر. يقول بروم: «إن اتخاذ القرار بأن الأمر سيكون سيئًا جدًّا جدًّا يتطلب تحليلًا أخلاقيًّا.»
إن تركيز بروم على منطق الخبراء الاقتصاديين ليس اعتباطيًّا. فبحسب قوله، «لطالما تبوأ» خبراء الاقتصاد «دور القيادة في أغلب الأحيان» فيما يتعلق بتوجيه السياسات الحكومية المعنية بتغير المناخ. ويضيف بروم: «لكنهم لا يُقيِّمون أسسهم الأخلاقية كما ينبغي دائمًا.» وبعدم وضع مستقبل البشر وصالحهم وتلك القيم التي يصعب تقدير قيمتها مثل جمال الطبيعة في الاعتبار بشكل كامل، يقول بروم إن كثيرًا من الاقتصاديين قد بخسوا على نحو خطير مقدار ما ينبغي علينا إنفاقه الآن لمعالجة تغير المناخ.

كيف سيكون التصرف الإلهي؟

في كتابه الذي صدر عام ٢٠١٠، «مرثية نوع: لماذا نرفض الحقيقة حول تغير المناخ»، يرى كلايف هاملتون — أستاذ الأخلاقيات العامة بجامعة تشارلز سترت بكانبرا في أستراليا — أن الوقت قد تأخر بالفعل لوقف العديد من الآثار الرهيبة للاحتباس الحراري، وأننا نكاد نكون على يقين من أننا سنجعلها أسوأ بكثير جدًّا.
بعد نشر هذا الكتاب، يقول هاملتون إنه أصبح مقتنعًا بأن «الفجوة المتزايدة» بين الأدلة العلمية المقبولة على نطاق واسع على مخاطر الاحتباس الحراري العالمي، وانعدام التقدم السياسي تجاه معالجة المشكلة، ستزيد من الضغط لرؤية الهندسة الجيولوجية كخيار مجدٍ. ويتوقع هاملتون أن تكون الهندسة الجيولوجية «الموضوع المهيمن على النقاشات حول تغير المناخ خلال الخمس إلى العشر سنوات التالية». لذلك، في كتابه الأحدث «سادة الأرض: فجر عصر هندسة المناخ»، يلقي هاملتون نظرة نقدية على مقترحات الهندسة الجيولوجية المختلفة، مثل استخدام جسيمات الكبريت أو مواد صناعية لحجب الشمس جزئيًّا. إنه متشكك للغاية من أن تعالج مثل هذه الخطط التي تهدف إلى إعادة ضبط الغلاف الجوي للأرض مشكلة تغير المناخ، ومتشكك كذلك إلى حد عميق من دوافع مؤيديها.
يستخدم هاملتون مصطلح «لعب دور الإله» لوصف عجرفة بعض الأشخاص الذين يقترحون الاستعانة بالهندسة الجيولوجية. وهو يشك في أننا سنكون بارعين في ذلك، أو أننا سنكون عادلين في استخدام تكنولوجيا من المرجح أن تضر ببعض الناس وتساعد آخرين. والأسوأ ربما أنه قال إن اقتراح استخدام مثل هذه التدابير الخطيرة لأننا فشلنا في معالجة تغير المناخ بالتقنيات الموجودة؛ يثير مشكلات أخلاقية، ويلوي المنطق السليم.
لو كان البشر محيطين علمًا بكل شيء وقادرين على أي شيء إلى حد كافٍ، هل كنا — كما الإله — استخدمنا طرق الهندسة المناخية برحمة؟ لا يستطيع علم نظام الأرض الإجابة عن هذا السؤال، ولا حاجة به إلى ذلك؛ إذ إننا نعرف الإجابة بالفعل. بالنظر إلى أن البشر يقترحون هندسة المناخ بسبب سلسلة متعاقبة من تجارب الفشل المؤسسي والسلوكيات النفعية، فإن أي مقترحات بأن نشر الدرع الشمسي سيجري بطريقة تستوفي أقوى مبادئ العدالة والرأفة ستكون معدومة الثقة على الأرجح، وهذا أقل ما يقال.
في تفكير هاملتون، تعد الهندسة الجيولوجية بمنزلة آخر مثال على الأمل الذي يراودنا في أن تنقذنا «الحلول التكنولوجية» من براثن الاحتباس الحراري العالمي. ويشير إلى الاستثمارات الضخمة في عملية احتجاز الكربون وتخزينه على أنها وسيلة لعكس تأثير الانبعاثات الصادرة من حرق الفحم — واصفًا إياها بأنها غير مثمرة على الأغلب — ويكتب قائلًا إن «الوعد الزائف» الذي تعدنا به عملية احتجاز الكربون وتخزينه قد أسهم في «عقد ضائع من معالجة تغير المناخ». لا تتمثل المشكلة فقط في أن «معجزات الطاقة» هذه ليس مرجحًا أن تعمل كما يأمل مناصروها، لكن احتمالية نجاحها تتسبب في مخاطرة أخلاقية، إذ يغري الناس بالإصرار على اتخاذ إجراءات محفوفة بالمخاطر دون توقع عواقب وخيمة. والأكثر من ذلك — بحسب قول هاملتون — أن الاعتماد على الحلول التكنولوجية يتجاهل الإخفاقات الاقتصادية والسياسية والأخلاقية التي أسفرت عن أزمة تغير المناخ من البداية.
لقد بدأنا بالكاد التعامل مع القضايا الأخلاقية المتعلقة بتغير المناخ.
بصورة عامة، يؤكد هاملتون على «التبعات الأخلاقية المدهشة» لتغير المناخ على المدى الطويل، وما يقترحه الراغبون في أن يصبحوا مهندسين جيولوجيين. يقول هاملتون إننا في «مرحلة تاريخية … إننا في حاجة إلى إعادة فتح قضية هويتنا كنوع بيولوجي، وأي نوع من المخلوقات قد أصبحنا عليه». وسيلاحظ القارئ المنتبه أن هاملتون لم يستبعد الهندسة الجيولوجية في المستقبل، إذا ما أصبح الأمر محبطًا؛ وإنما يطالبنا باختبار الدوافع الاقتصادية والسياسية لمناصري الهندسة الجيولوجية، وفهم أن محاولة هندسة المناخ تعكس ثقةً في غير محلها في قدرة التكنولوجيا على حل المشكلات السياسية والاجتماعية.
في كتابه «عاصفة أخلاقية مدمرة: المأساة الأخلاقية لتغير المناخ»، يخلص ستيفن إم جاردنر إلى استنتاجات مشابهة بعد تحليل من نوع مختلف إلى حد كبير. على عكس هاملتون، جاردنر — أستاذ الفلسفة بجامعة واشنطن — لم يظهر سوى قليل من الاهتمام بكل من الأطراف الفاعلة والسياسات التي تقف وراء الهندسة الجيولوجية؛ وإنما حلل بدقة شديدة التبريرات الأخلاقية لوضع هذه التكنولوجيا في الاعتبار.
بوجه خاص، يشكك جاردنر في المنطق الساذج الذي يرى أنه نظرًا لأن الهندسة الجيولوجية قد يتضح أنها «الأقل ضررًا» إذا ما طرأت حالة مناخية ما في المستقبل، فينبغي أن نكون الآن قائمين على البحث فيها لفهم هذه التكنولوجيا وأخطارها. ويؤكد جاردنر أن هذا الجدل يُخفي كثيرًا من التحديات الأخلاقية. أليس من غير الأخلاقي منا أن ننتظر من جيل قادم أن يتحمل مخاطر الهندسة الجيولوجية، ويتكبد تكاليفها لأننا فشلنا في معالجة تغير المناخ؟ ألن يتسبب الحث على إجراء أبحاث ضخمة عن الهندسة الجيولوجية في زيادة الاحتمالية المشئومة لاستخدامها؟

آراء متباينة

على الرغم من أنها تعكس اهتمامات وأهدافًا مختلفة، فإن هذه الكتب — مجتمعة — تشرع في إلقاء الضوء على السبب وراء أن تغير المناخ يمثل مشكلة يصعب معالجتها، بل وحتى تحديدها. وعلى أية حال، إذا كان هذا الموضوع أخلاقيًّا في الأساس، فمن البديهي أن تعجز الحلول الاقتصادية البسيطة، أو تلك القائمة على التكنولوجيا.
علاوة على ذلك، يثير تغير المناخ مشكلات أخلاقية عويصة للغاية. يشير عنوان كتاب جاردنر إلى تلاقي ثلاث «عواصف» أخلاقية منفصلة، أو «عوائق أمام قدرتنا على التصرف على نحو أخلاقي»؛ أكبرها هي أن الأجيال المستقبلية تحت رحمة الأجيال الحالية، وهو ما يسميه أحيانًا إلقاء الأجيال المتعاقبة للوم بعضها على بعض. تنطوي العاصفتان الأخريان على الآثار المختلفة لتغير المناخ حول العالم وعلى الجماعات السكانية المختلفة، واحتمالية أن الإشكالات النظرية في مناح ٍ مثل أخلاقيات ما بين الأجيال وعلم المناخ ستصعب علينا التصرف. يمضي جاردنر عبر ٥٠٠ صفحة تقريبًا في محاولة تحديد الآراء المتباينة الناتجة عن تلك العواصف، مستنتجًا أنه «لن يكون من السهل لنا أن نخرج سالمين من الناحية الأخلاقية».
ومع ذلك، قد تكون أول خطوة واضحة هي الإقرار بالقضايا الأخلاقية المرتبطة بتغير المناخ، واحتمال الحاجة إلى اتخاذ بعض القرارات الصعبة. ويصيب جاردنر حين يقول إن كثيرًا من النقاش العام يسيطر عليه «المتفائلون على المستويين التكنولوجي والاجتماعي»، والذين يدافعون عن الحلول «المربحة لجميع الأطراف» التي ستتيح لنا معالجة المشكلة دونما بذل أية تضحيات اقتصادية، أو اللجوء إلى خيارات أخلاقية صعبة. هل يمكن للطاقة الخضراء أن تحل المشكلة ببساطة، ليس لنا فقط، وإنما كذلك للأجيال القادمة؟ إننا نشرع في معرفة الإجابة؛ ليس من أثر على اقتراب ثورة التكنولوجيا النظيفة، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن التكنولوجيا النظيفة تعني اتخاذ خيارات صعبة. وعلاوة على ذلك — بحسب قول جاردنر — التعلق بذلك الأمل يشوش على الأسباب الحقيقية وراء حاجتنا إلى القيام بشيء ما إزاء تغير المناخ:
بوجه أكثر عمومًا، التركيز الحالي على الأسباب المنطقية لقيام ثورة الطاقة الخضراء يركز الضغط في موضع خاطئ. إن السبب الرئيسي للتصرف إزاء تغير المناخ ليس أن ذلك سيجعلنا أفضل حالًا، وإنما لأن عدم التصرف ينطوي على استغلال الفقراء والمستقبل والطبيعة … إن المناداة بالثورة الخضراء قد تؤدي إلى جعلنا نغفل عن الجوانب المهمة في مشكلة تغير المناخ، وعلى نحو يقوض الدافع للتصرف. والنقطة الأساسية هي أنه ينبغي لنا العمل على مشكلة تغير المناخ، حتى إذا كان القيام بذلك لن يجعلنا أفضل حالًا: بل — في الواقع — حتى لو جعلنا هذا الأمر أسوأ حالًا. إننا إذا ما أخفينا القضايا الأخلاقية أو هوَّنَّا من وطأتها، فإن هذه الحقيقة المهمة ستضيع، وستتلاشى احتمالات اتخاذ إجراء يمكن الدفاع عنه من الناحية الأخلاقية.
لقد بدأنا بالكاد في مناقشة القضايا الأخلاقية المرتبطة بتغير المناخ. وفي الواقع، قليلون هم من يقرون بالدور الأساسي الذي ينبغي للقضايا الأخلاقية أن تؤديه في القرارات المتعلقة بسياستنا، وبالتأكيد مسئولياتنا تجاه المستقبل البعيد نادرًا ما تشكل جزءًا من النقاش العام. ولكن مع الأخذ في الاعتبار الأدلة المقنعة التي قدمها علماء المناخ على أن أفعالنا على مدار العقود العديدة القادمة سيكون لها آثار مباشرة على أجيال ستعيش بعد سنوات عديدة من وقتنا هذا، يجب علينا أن نفكر في الأبعاد الأخلاقية لاستجابتنا. ومثلما يذكر جاردنر في نهاية كتابه: «لقد حان الوقت للتفكير بجدية بشأن مستقبل البشرية.»

الخميس، 28 نوفمبر 2013

مناطق مجهولة: إلى أين تأخذنا الخرائط الرقمية؟

تشهد طريقة استخدامنا للخرائط تطورًا سريعًا، وسوف تغير ما هو أكثر من الطريقة التي نتنقل بها.
أين تقع …؟ 
هل تعلم أين أنت؟ إنك تدرك قطعًا من وما يوجد بالقرب منك الآن، ربما تستطيع أن تمعن النظر فيما هو أبعد فتلتقط اسم شارع أو نهر أو ناطحة سحاب تلوح من فوق الأسطح. إذن يمكنك على الأرجح تحديد موقعك على خريطة.
بدون خرائط، كانت الصورة الذهنية عن مكاننا في العالم لتصبح مختلفة تمامًا. فقبل انتشار الخرائط المطبوعة لم يكن لدى البشر سوى فكرة محدودة للغاية عن حقيقة المناطق المحيطة بهم تعتمد على الذاكرة والوصف الشفهي.
لكن هناك ثورة أخرى في كيفية إدراكنا للعالم عبر الخرائط في طريقها إلينا الآن بفضل التقدم في العالم الرقمي؛ إذ إن هناك سباقًا محمومًا تشترك فيه بعض من أكبر شركات العالم لرسم خرائط الكرة الأرضية ولكل ما يجري بها من وقائع بتفصيل متقن، ويعتقد كثيرون أن الأمر لا يزال في بدايته.
تَعِدنا تلك الجهود المبذولة لإعداد الخرائط الرقمية بأكثر من مجرد إعادة إنتاج افتراضي للمساحات الطبيعية. فعلى مدار قرون، كان محور العالم هو مركز الحضارات مثل الصين أو القدس ثم جرينتش، أما الآن فمحور العالم هو أنت! فلأول مرة أصبحنا نستخدم خرائط تعرف أين نحن، ومن الممكن تهيئتها لتناسب احتياجاتنا. ويستعد هذا التطور لتغيير أفكارنا عما يحيط بنا والتأثير على قرارتنا ونحن نرتحل عبر العالم. ورغم أن تلك المناطق المجهولة قد لا تأوي تنانين أو وحوشًا بحرية، فقد لا تخلو كذلك من المفاجآت والأخطار.
ونظرًا لوجود الخرائط الرقمية في كل مكان على أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية، فمن السهل أن ننسى أنها حديثة الظهور نسبيًّا. فقد ظهرت أولى محاولات تحويل الخرائط إلى محتوى رقمي في عام ٢٠٠١ عندما نشرت هيئة المساحة البريطانية نسخًا رقمية من إصداراتها الورقية، وبعدها ببضع سنوات أعلنت مجموعة تدعى «خريطة الشارع المفتوح» OpenStreetMap عن خطط تهدف إلى إعداد خريطة رقمية مجانية للعالم يصممها مجموعة من المتطوعين كما هو الحال في المقالات المنشورة على موقع ويكيبيديا.
إلا إن الخرائط الرقمية لم تصبح جزءًا من الاتجاه السائد إلا بعدما اشتركت جوجل في الأمر في منتصف العقد الأول من القرن الحالي؛ إذ شهد عام ٢٠٠٤ انطلاق خدمة جوجل لوكال، والتي قدمت بيانات الشركات بجانب خريطة صغيرة. وفي غضون عام انطلقت خدمة خرائط جوجل بكل ما تشتمل عليه من إمكانيات تتيح البحث في الخرائط وإعطاء إرشادات، وسرعان ما بدأت الخرائط الرقمية تمثل أساس المئات من تطبيقات الهواتف الذكية.
لم تكن تلك التطورات سوى البداية، فكما يذهب جيري بروتون — مؤرخ الخرائط في كلية كوين ماري بجامعة لندن: «نحن لا نزال في حقبة الطابعة النقطية من الخرائط المتاحة على الإنترنت، لكننا نتقدم بسرعة فائقة، وبعد ١٠ أو ١٥ عامًا سوف ننظر إلى هذه التقنيات ونقول: يا لها من تقنيات بدائية مثيرة للخجل!»
ومؤخرًا، بدأت بعض شركات التكنولوجيا العملاقة الأخرى تدرك الإمكانيات الاقتصادية الهائلة للخرائط الرقمية، فطورت شركة مايكروسوفت تطبيق «خرائط بنج»، في حين أطلقت شركة نوكيا تطبيقًا يدعى «هنا» يقدم خرائط لجهاز كنيدل فاير الذي تنتجه أمازون. وفي العام الماضي انضمت شركة أبل إلى المنافسة؛ إذ يساوي الاستثمار في هذا المجال أموالًا طائلة؛ فعبر امتلاك الخريطة تستطيع الشركات بيع خدمات إعلانية مرتبطة جغرافيًّا بموقع الخريطة، وتحصيل رسوم من الشركات مقابل إدراجها عليها، ويمكنها كذلك فرض رسوم على الغير نظير استخدام الخرائط في التطبيقات والمواقع الإلكترونية.

مساحات داخلية

بالرغم من هذا المجهود، لا تزال أجزاء كثيرة من العالم مجهولة رقميًّا، وتمثل المحيطات أحد تلك الأجزاء. فتضع جوجل حاليًّا خرائط للحاجز المرجاني العظيم، بينما يعرض تطبيق خرائط بنج مواقع حطام السفن، ويرسم مشروع يدعى «أوبن سي ماب» OpenSeaMap خرائط لخطوط النقل البحري وعوامات إرشاد السفن وغيرها من المعالم.
إلا أن أكثر المناطق التي يرغب الجميع في تحديد مكانها هي تلك الأقرب إلى المنزل، بل داخل المباني؛ إذ سيستفيد معظم الناس من أداة للمساعدة على التنقل داخل المباني الضخمة أكثر من تلك المصممة لأحد أركان الأرض النائية. والأهم من ذلك أن وضع خريطة لمجمع تجاري صغير مربحة أكثر من خريطة لصحراء كاملة. حاليًّا يقدم تطبيق خرائط جوجل خرائط توضيحية لطوابق داخل حوالي ١٠٠٠٠ مبنًى، بينما يضم تطبيق خرائط بنج ما يزيد على ٣٣٠٠ مبنًى. وتتضمن القائمة أماكن عامة مثل المطارات والمستشفيات ومحطات القطارات والجامعات والمتاحف، بالإضافة إلى المتاجر الكبرى، مثل: إيكيا وهارودز وجون لويس في المملكة المتحدة، وهوم ديبو في الولايات المتحدة الأمريكية. وهو الاتجاه المتزايد حاليًّا.
وكما هو الحال في الخرائط الرقمية للمناطق الخارجية، يمنحك استعراض خرائط الطوابق على هاتفك الذكي قدرة أفضل على التنقل مقارنة بالخرائط التقليدية، وأحد الأماكن التي ربما تظهر فيها فائدة هذا النوع من الخرائط هو المطار؛ حيث قد تتسبب الخرائط المعلقة على اللوحات الإرشادية في إرباك المسافرين — كما يذهب مانك جوبتا مدير أول المنتجات في «جوجل مابس» — إذ توضح الخرائط الرقمية للمطارات التي تقدِّمها شركتُه موقعَك بالضبط، ويأملون أن يقدموا قريبًا خدمة الإرشادات لمساعدتك على التوجه للبوابة التي تبحث عنها.
ليست تلك هي الطريقة الوحيدة التي أصبحنا بها في مركز الخريطة، فقد تحمل الخرائط الرقمية مستويات عدة من المعلومات عما يحيط بنا، سواء أكانت معلومات مباشرة عن حالة المرور أو الحافلات القريبة أو حالة الطقس المتوقعة، والأهم هو إمكانية ضبط تلك الإمكانيات وفقًا لاحتياجاتنا.
فيما مضى، كان كم هائل من هذه المعلومات غير متاح لمعظم الناس، فكما يوضح نايجل شادبولت — رئيس معهد البيانات المفتوحة بلندن — أن أكثرها كان محتجزًا لدى الحكومات أو قواعد البيانات الحصرية التي لا تكون متاحة إلا باشتراك. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت فتح مخازن المعلومات تلك أمام العامة، فيقول شادبولت: «أشعر أن ذلك في مصلحة العامة بالضبط كالهواء النقي والماء النظيف.»
على سبيل المثال عندما بدأت قوات الشرطة في نشر بيانات الجرائم لديها على الإنترنت مصنفة حسب موقعها، ظهرت العديد من التطبيقات لعرض تلك البيانات جغرافيًّا، مثل: تطبيق «كرايم مابس» في المملكة المتحدة، و«سبوت كرايم» في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أتاحت تلك التطبيقات للعامة استعراض خرائط توضح الجرائم التي تقع على مقربة منهم بدءًا من جرائم الانحراف السلوكي ووصولًا إلى جرائم القتل. ويتم تحديث هذه البيانات سريعًا في أغلب الأحيان؛ فقوات الشرطة في هامشاير بالمملكة المتحدة مثلًا تُحمِّل بياناتها في غضون ٢٤ ساعة من وقوع الجريمة.
كذلك تحاول بعض المجموعات دمج كل هذه المعلومات، فمثلًا يوفر موقع «سيتي داشبورد» City Dashboard التابع لمركز التحليل المكاني المتقدم بكلية لندن الجامعية خرائط على الإنترنت لثمانٍ من المدن الكبرى في المملكة المتحدة تعرض الأحوال الجوية مباشرة، وبيانات تلوث الهواء التي تصدرها إحدى الهيئات الحكومية البريطانية، فضلًا عن صور لشوارع معينة تلتقطها كاميرات المراقبة التليفزيونية.
والأكثر من ذلك هو أن بعض المعلومات التي أضيفت إلى الخرائط الرقمية يقال إنها لم تُسجل في الوقت الفعلي من قبل، فمثلًا يعرض موقع «سيتي داشبورد» مؤشرات خاصة بمستوى السعادة في المنطقة، وتستقي تلك المؤشرات بياناتها من موقع يدعى «مابينيس» Mappiness الذي يطلب من المتطوعين تسجيل حالتهم المزاجية طوال اليوم. وبالمثل يعمل العديد من الباحثين على إنشاء خرائط للمشاعر السائدة في منطقة معينة باستخدام موقع تويتر؛ إذ إن العديد من التغريدات تُظهر موقع صاحبها، ومن ثم يمكن عبر تحليل اللغة المستخدمة في التحديثات استنتاج الحالة المزاجية أو الرأي العام للسكان، وإضافة تلك المعلومات إلى خرائط يتم تحديثها باستمرار.
إن اكتساب مثل هذا الوعي المكثف بالبيئة المحيطة بنا قد يؤثر على قراراتنا ونحن نتجول حول العالم؛ فتخيل مثلًا أنك وصلت لتوك وتتجول في مدينة جديدة مجهولة. لطالما كان الوعي بمستويات الجريمة في مناطق معينة محدودًا للغاية، لكن وجود خريطة مفصلة تحوي تلك المعلومات يقدم واقعًا ملموسًا يمكن أن يتم اتخاذ القرارات على أساسه. أضف إلى ذلك خرائط توضح أسعار المنازل ومقالات نقدية عن المطاعم والإحصائيات السكانية المحلية ومستوى الرفاهة وغيرها من المعلومات؛ فهذا من شأنه قطعًا أن يُغير تصورنا عن اختيار الأماكن التي نختار أن نعيش فيها أو نزورها. لكن هذا التطور ليس مرحبًا به من قبل الجميع بالضرورة، فقد يعوق ذلك الاستثمارات في المناطق التي تحتاج إليها، ويُرسخ الحرمان الاجتماعي في بعض المناطق.
لكن وجود تلك الخرائط الثرية بالمعلومات في متناول أيدينا سيؤدي كذلك إلى نتيجة أخرى غير متوقعة؛ ألا وهي أننا سنثق بها أكثر من اللازم. وقد ألقت بعض الأخطاء البارزة الضوء بالفعل على الأخطار المترتبة على تلك الثقة؛ فعلى سبيل المثال، أخطأت شركة أبل مؤخرًا في تحديد موقع بلدة أسترالية على خريطتها المدمجة بهواتف آيفون، وهو خطأ تسبب في أن ضل مستخدمو الخريطة طريقهم في منطقة نائية واضطروا للاستعانة بالشرطة لإنقاذهم.
فضمان الدقة ليس بالمهمة السهلة (انظر عنوان «الخرائط ومسلسل ماكجيفر»)، وترجع جذور هذه المشكلات إلى حقيقة هامة؛ ألا وهي: لا توجد خريطة تعرض الواقع؛ إنما هي دومًا تصميم تجريدي. يقول بات سييد، مؤرخ الخرائط في جامعة كاليفورنيا بمدينة إرفاين: «الخرائط صحيحة من منظور معين، لكن لا توجد حقائق مطلقة.»
يتخذ واضعو الخرائط دومًا سلسلة من الاختيارات حول كيفية تمثيل الواقع، وقد يؤثر هذا الاختيار على منظورنا دون أن ندرك ذلك. وهو نفس ما حدث في الخرائط المطبوعة؛ فمعظم خرائط العالم تستند إلى مسقط مركاتور الذي ابتكره جراردوس مركاتور عام ١٥٦٩، والذي يضخم حجم أوروبا بينما يقلص من حجم أفريقيا بشكل ملحوظ، مما يجعله تعبيرًا تجريديًّا عن الهيمنة الجيوسياسية أكثر من الدقة الجغرافية، ورغم ذلك لا يزال يشكل صورة العالم في أذهاننا.

سمات خفية

تكمن مشكلة العديد من الخرائط الرقمية في صعوبة إدراك كيفية إعدادها، ومن هم الأشخاص وما هي الأشياء والأماكن التي أغفلتها؟ يقول مارك جراهام، مدير الأبحاث في معهد أكسفورد للإنترنت بجامعة أكسفورد: «يصعب للغاية الإجابة عن تلك الأسئلة في كثير من الأحيان.» ويضيف أن اختيارات شركات مثل جوجل ومايكروسوفت فيما يتعلق بإعداد الخرائط غالبًا ما تكون غير واضحة، ويظل الكود والقواعد التي تُبنى عليها لغزًا.
علاوة على ذلك قد لا تتفق مصالح تلك الشركات دومًا مع مصالح الأشخاص الذين يطمحون في الحصول على خريطة دقيقة، فمثلًا عند البحث عن المقاهي أو الحانات الموجودة في منطقة ما قد يتعذر عليك في بعض الأحيان معرفة ما إذا كانت نتائج هذا البحث تصف بالفعل ما هو موجود على أرض الواقع أم تقدم عرضًا لإعلانات مدفوعة الأجر. إن فرص تحويل الخرائط المتاحة على الإنترنت إلى سلع فرص لا نهائية، ويكتنفها الغموض.
لكن ما يدعو للاطمئنان هو تسارع الجهود المبذولة لجعل الخرائط الرقمية أكثر شفافية. فعلى سبيل المثال، لم يستطع مشروع خريطة الشارع المفتوح عند انطلاقه عام ٢٠٠٤ منافسة نطاق جوجل ومستوى تفاصيله؛ نظرًا لأنه يعتمد على مساهمات مستخدميه، لكنه منذ ذلك الحين تطور تطورًا ملحوظًا وأصبح الآن أساس العديد من التطبيقات المعتمدة على تحديد الموقع. ويزعم كثير من مستخدميه أنه أكثر دقة من جوجل في بعض المدن.
يتيح أسلوب التحرير المفتوح المستخدم في مشروع خريطة الشارع المفتوح لمستخدميه تحكمًا أكبر في الخرائط التي يستخدمونها. يقول ستيف كوست مؤسس المشروع: «إنه يسمح للمستخدمين بالتدخل في الخرائط وتغيير ما يُملى عليهم عادة.» وليس واضحًا ما إذا كان هذا المشروع سيتمكن من زحزحة هيمنة جوجل أم لا، لكن مؤيدي المشروع يزعمون أنه على الأقل هناك منافسة من قبل مؤسسة تضع الدقة والوضوح على رأس أولوياتها وليس الربح المالي.
قد لا يقتصر تأثير الخرائط الرقمية في النهاية على قراراتنا التجارية فحسب، فكما يقول جورج جارتنر — رسام الخرائط في جامعة فيينا للتكنولوجيا في النمسا ورئيس الرابطة الدولية لرسم الخرائط — فإنه مع تزايد أعداد الأشخاص الذين يعتمدون على خرائط الهواتف الذكية في تنقلاتهم ربما يمتد تأثيرها إلى قدرتنا على بناء خرائط في أذهاننا.
يزعم جارتنر أن قراءة الخرائط على الهواتف المحمولة قد يؤثر على إدراكنا المكاني؛ فنحن نستعرض أجزاء صغيرة من محيط الخريطة في كل مرة بسبب صغر حجم الشاشة. وقد اكتشف جارتنر في تجربة أجراها، أن الأشخاص الذين استخدموا عددًا من الخرائط الصغيرة للتنقل داخل إحدى المدن واجهوا صعوبة أكبر في إيجاد طريقهم بالنسبة لمواقع المعالم الرئيسية بالمدينة، مقارنة بمن استخدموا خريطة أكبر ذات سياق أوضح، كما أنهم واجهوا صعوبة لوصف تصور دقيق لمسارهم.
وعلاوة على ذلك، قد تكون الخرائط الرقمية أقل فعالية من الخرائط الورقية في مساعدتك على التنقل، على الأقل إذا كنت تسير على قدميك؛ إذ قارن تورو إيشيكاوا، من جامعة طوكيو في اليابان، مهارات التنقل لدى مستخدمي الخرائط الرقمية والخرائط الورقية في الشوارع التي لا يعرفونها، ووجد أن من يعتمدون على هواتفهم يتحركون ببطء أكبر ويسيرون لمسافات أطول، وكان أداؤهم أسوأ في استنباط وجهتهم ممن استخدموا الخرائط الورقية (مجلة جورنال أوف إينفيرومينتال سايكولوجي، المجلد ٢٨، صفحة ٧٤).
عند استخدام الخرائط الورقية نضطر إلى بذل جهد لإدراك موقعنا، لكن دون بذل هذا المجهود الذهني نصبح مهددين بتدهور قدرتنا على الاحتفاظ بالخرائط في ذهننا. يؤكد جارتنر هذا قائلًا: «تؤدي الخرائط المدمجة على الأجهزة المحمولة أو في نظم الملاحة الإلكترونية إلى تكوين خرائط ذهنية أقل دقة، كذلك تنتقص من قدرة الفرد على التصرف في عالم الواقع.»
تسعى الخرائط الرقمية لتحسين العالم واستغلاله الاستغلال الأفضل، مما يمنحنا تجربة أكثر ثراءً أثناء التنقل عبر العالم، لكننا كذلك عند استخدامها نجازف بأن نصبح أكثر بلادة، وأن يقل لدينا حب الاستطلاع والمغامرة؛ إذ إنها توفر لنا تجربة معدة مسبقًا يتم نقلها بوسيلة رقمية، والتي تجعلنا أكثر اعتمادًا على الأجهزة التي نمتلكها أكثر من أي وقت مضى.
إن المخاطر والمزايا المحتملة التي نواجهها عند الدخول إلى المناطق التي توضحها خرائط رقمية مرتفعةٌ؛ ولكن لو أننا حافظنا على قدر جيد من الاطلاع فربما لا نضل الطريق.

الخرائط ومسلسل ماكجيفر

إن إعداد الخرائط الرقمية ليس بالمهمة السهلة على الإطلاق؛ فوراء هذا الشكل الخارجي تقف مصادر لا حصر لها، مما قد يتسبب في وقوع أخطاء.
وفيما يتعلق بالخرائط الأساسية، لا تزال شركات مثل جوجل وأبل تعتمد بشدة على هيئات رسم الخرائط التقليدية؛ إذ لجأت شركة جوجل مابس — من أجل الحصول على معلومات طوبوغرافية تخص العديد من الدول — إلى شركة رسم الخرائط الهولندية تيلي أطلس، والتي تجمع بدورها المعلومات من هيئات راسخة مرموقة مثل هيئة المساحة البريطانية.
لكن جوجل ترغب في تغيير هذا، فعلى مدار السنوات القليلة الماضية بدأت الشركة في تنفيذ مشروع أطلقت عليه اسم «جراوند تروث» الذي ينطوي جزء كبير منه على معالجة صور الأقمار الصناعية وصور خدمة «ستريت فيو» لإعداد الخرائط من نقطة الصفر. إذ يعمل مهندسو جوجل على تطوير خوارزميات تحوي برامج للتعرف على الرموز البصرية بغرض قراءة اللافتات، مثل أسماء الشوارع أو اللافتات التحذيرية مثل «شارع اتجاه واحد»، حتى تتم تسمية الطرق وتمييزها بدقة. ويمكنهم كذلك التعرف على شعارات الشركات على واجهات المتاجر كي تكون أسماء الشركات التي توضحها الخرائط حديثة.
يساعد استخدام البرامج المُؤَتْمَتَة في إعداد خرائط العالم على تسريع العملية، لكن لهذه التقنية عيوبها كذلك، فعلى سبيل المثال: في عام ٢٠١٠ أعادت جوجل عن طريق الخطأ تسمية جزيرة ساموس اليونانية على اسم شخصية ماكجيفر — وهو بطل المسلسل التليفزيوني الذي عرض في ثمانينيات القرن العشرين — حيث إنه عندما كانت خوارزميات جوجل تجمع بشق الأنفس معلومات جغرافية من على موقع ويكيبيديا قام أحد المخربين بتغيير المعلومات الموجودة في تلك الموسوعة المتاحة عبر الإنترنت؛ ولم يُصحح خطأ «جزيرة ماكجيفر» إلا بعد عدة أيام.
 

الثلاثاء، 26 نوفمبر 2013

مهمة إلى الوشاح: الحفر لاختراق القشرة الأرضية

سوف يكون أروع استكشاف للتكنولوجيا. خطة جريئة للحفر في باطن الأرض تَعِد بحل ألغاز معقدة عن كوكبنا؛ حتى إنها قد تعثر على حياة بالأسفل.
ستنضم شيكيو إلى مجموعة مختارة من البواخر التي تحمل المستكشفين إلى عوالم جديدة 
تنطلق سفينة استكشاف «غريبة» قبالة الساحل الشرقي لليابان. للوهلة الأولى، تشبه السفينة ناقلة نفط غريبة نوعًا ما. إنها سفينة ضخمة يوجد على ظهرها مهبط لطائرات الهليكوبتر ورافعات وبرج سقالة يبلغ ارتفاعه نحو ٣٠ طابقًا.
في غرفة التحكم، يراقب أحد المشرفين الشاشات قبل تحريك السقالة الشاهقة. يقول: «مطلوب تأكيد على موقع الحفرة». وداخل البرج، يدوّي أزيز الآلات بينما يجري إنزال أطول حفار في العالم نحو قاع المحيط. ستكون وجهته النهائية — عندما يصل هناك — منطقة غير موجودة على الخريطة.
وهكذا يمضي يوم تقليدي على متن شيكيو، المركبة اليابانية الحفارة في البحار العميقة! تسعى شيكيو اليوم إلى اكتشاف الصدع الذي سبب زلزال توهوكو العام الماضي من أجل إعادة تحليل أسبابه، ولكن السفينة تتطلع إلى هدف أكثر طموحًا. يخطط علماء الجيولوجيا لاستخدام شيكيو في الحفر داخل القشرة الأرضية وصولًا إلى الوشاح لجلب مجموعة قيمة من العينات الصخرية المخبوءة. هذا العمل الفذ لم يسبق له مثيل، بل ولم يخطر على بال أحد من قبل.
إذا حصل المشروع على الضوء الأخضر، فسيكون أكثر المغامرات روعة في علم الأرض. وعلى نحو مماثل لإطلاق سفينة فضاء إلى القمر، يمكن أن يغير هذا المشروع فهمنا لتطور كوكبنا، كما سيمثل تحديًا للنماذج الأساسية في علم الأرض. بل إنه يُحتمل أن نجد شيئًا غير مألوف كامنًا بالأسفل، شيئًا لم يظنه أحد ممكنًا حتى عهد قريب، سوى قلة قليلة.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتوق فيها علماء الجيولوجيا إلى استكشاف باطن الأرض. ففي عام ١٩٠٩، اكتشف عالم الأرصاد الجوية الكرواتي أندريا موهوروفيتش أن سرعة انتقال الموجات الزلزالية التي تسببها الهزات الأرضية تحت عمق ٣٠ كيلومترًا تكون أكبر بكثير منها في الطبقات الأعلى، مشيرًا إلى أن هذه الصخور العميقة ذات تراكيب وخصائص فيزيائية مختلفة. وبهذا الاكتشاف، صنع موهوروفيتش لنفسه مكانةً مرموقة في تاريخ العلوم. أُطلق على هذا التغير الملحوظ في سرعة الموجات الزلزالية الانقطاع الموهوروفيتشي — ويعرف أيضًا بانقطاع موهو — ويميز الحد العلوي للوشاح.
يعرف علماء الجيولوجيا الآن أن قمة الوشاح تقع تحت سطح القشرة القارية السميكة بمسافة تتراوح بين ٣٠ و٦٠ كيلومترًا، ولا تتعدى ٥ كيلومترات تحت قاع البحار في مناطق تصل القشرة فيها إلى أقل سُمك لها. إن ما يحدث عند ذلك العمق يغير مواقع الصفائح التكتونية ويشكّل الأرض التي نقف عليها، ويطلق العنان لثورة الزلازل والبراكين، وبهذا، يكون قد شكّل كافة مظاهر الحياة على سطح الكوكب؛ بما فيها نحن البشر.
وبالرغم من ذلك، لم يشعر العلماء بضرورة فحص الوشاح حتى أواخر خمسينيات القرن الماضي. ففي ذلك الوقت، كان الجدل مستعرًا حول فكرة الصفائح التكتونية. زعم هاري هيس وغيره من مؤيدي هذه النظرية أن تيارات ناقلة ساخنة تنبعث من الأعماق تدفع الصفائح التكتونية العائمة في أنحاء سطح الكوكب. شعر هيس وزميله والتر مانك بأن عدم وجود دليل مادي على هذه النظرية يقف حجر عثرة في طريقهما، فاستعانا ببعض رفاق الشرب في الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم. وأثناء إفطار زاد حرارته تناول الخمر في كاليفورنيا في أبريل ١٩٥٧، توصل الكيان الذي يُطلق عليه «الجمعية الأمريكية متنوعة التخصصات» إلى خطة لجلب عينات الوشاح. ومن هنا، كان ميلاد مشروع موهول.
كان عليهم اجتياز العديد من التحديات؛ كل شيء بدءًا من العثور على تمويل ووصولًا إلى ابتكار تقنية تُبقي سفينة حفر مرابطة في أعالي البحار. لم يستطيعوا استعارة الأفكار من شركات النفط البحرية — حيث لم تكن الشركات تحفر تحت المياه العميقة آنذاك — ومن ثم طور فريق موهول تقنية باسم الإرساء الديناميكي، استخدموا فيها آلات دفع موضوعة بمهارة في الأماكن المناسبة لإبقاء السفينة مستقرة في مكانها. تم حفر أول لب من العينات الصخرية على مسافة ١٨٣ مترًا من ساحل جزيرة جوادالوب في المحيط الهادي في أبريل عام ١٩٦١. وكانت تلك أيضًا آخر عينة.
ما إن عادت البعثة الاستكشافية، حتى نُحى كبار العلماء عنها، وغُيرت الإدارة، واستمرت التكاليف في الارتفاع، وظهر في المشهد سياسي شاب يدعى دونالد رامسفيلد أقحم نفسه في هذا المشروع. في عام ١٩٦٦، طُويت صفحة مشروع موهول بعد أن صوّت الكونجرس الأمريكي على وقف التمويل المخصص له.
مع هذا، استمر الحفر في القشرة المحيطية. لكننا لم نتجاوز قط ثلث الطريق إلى الوشاح. كان أقصى ما حققه حفار هو عمل حفرة يبلغ عمقها ١٥٠٧ أمتار قبالة ساحل كوستاريكا. ليست هذه هي أعمق حفرة على الإطلاق — حتى وإن كانت في القشرة المحيطية — ولكن سمك القشرة هناك يُقدر بأقل من ٥٫٥ كيلومترات. بعض الحفر على اليابسة يمتد عمقها أسفل السطح إلى أبعد من هذا بكثير، ولكن نظرًا لأن القشرة القارية أكثر سمكًا بمراحل، فإن أعمق النقاط فيها تقع على بُعد عشرات الكيلومترات من الوشاح.
وكما يرى علماء الجيولوجيا المسئولون عن مشروع «الحفر تحت نقطة الانقطاع الموهوروفيتشي إلى الوشاح» لعام ٢٠١٢، ثمة مبدأ علمي واضح يشجعهم على الحفر مرة أخرى. فعلى كل حال، بينما يشكّل الوشاح ٦٨٪ من كتلة الأرض، فإننا لا نعرف عنه سوى القليل. يقول دايمون تيجل في المركز الوطني البريطاني لدراسة علم المحيطات في ساوثامبتون — وأحد أعضاء الفريق الدولي الذي يعمل في المشروع تحت إشراف ياباني — «لا توجد حاليًّا عينات أصلية من الوشاح، لذا لا نعرف سوى لمحات عما يجري.»
وصلت بعض العينات إلى السطح، لكنها جميعًا ملوثة. فمثلًا جلبت الثورات البركانية معها صخورًا نادرة تُعرف بعُقد الوشاح توضح أن الوشاح يتكون من معادن غنية بالماغنيسيوم وفقيرة بالسيليكون مثل الأوليفين والبيروكسين. وفي بعض أجزاء قاع المحيط، توجد صخور عارية كانت في يوم من الأيام جزءًا من الوشاح، ولكن تعرضها لمياه البحر أدى إلى تغير تركيبها تغيرًا جذريًّا. تضاهي هذه العينات الفرق بين النيازك المريخية والصخور الحقيقية التي يتم جمعها من فوق سطح الكوكب الأحمر. وفي غياب عينات حديثة، يواجه العلماء صعوبات كبيرة في إثبات أبسط الحقائق عن كوكبنا، بما فيها التركيب الدقيق للوشاح وكيفية تكونه وآلية عمله.

الأحجار الثمينة

يضطر العلماء بدلًا من ذلك إلى جمع نظرياتهم عن الوشاح باستخدام أدلة غير مباشرة. يُستدل على تركيب الطبقات العريضة للوشاح عن طريق تتبع سرعة الموجات الزلزالية، كما فعل موهوروفيتش. كما تم التوصل إلى بعض الدلائل الأخرى التي تسلط الضوء على تركيبه من خلال النيازك التي تكونت من الحطام الكوني نفسه الذي تكون منه كوكبنا الصخري، أو — في فترة أحدث — من خلال طرق غريبة مثل فحص النيوترينوات المنبعثة أثناء التحلل الإشعاعي لعناصر معينة.
غير أن العديد من الأسئلة لا تزال تحتاج إلى إجابة. سيكشف لنا تحديد أدلة لاقتفاء آثار الحمل الحراري في الوشاح — كانبعاث الغازات الخاملة والنظائر المشعة — كيف ومتى انقسم كوكبنا إلى طبقات ثلاث: اللب والوشاح والقشرة الأرضية، ومتى بدأ تكوُّن الصفائح التكتونية. سيساعدنا التعرف على المواد الكيميائية والنظائر المشعة التي يتكون منها الوشاح العلوي على توضيح كيفية انتقال الماء وثاني أكسيد الكربون والطاقة إلى القشرة، وكيفية تأثيرها في الدورات الجيوكيميائية العالمية. كما أن اكتشاف مدى تغاير عناصر الوشاح، سيدلنا على كيفية اندفاع الصهارة إلى أعلى ثم ثورتها في قاع البحر في وسط المحيطات.
قد تكون أكثر الأشياء التي سنجدها في الوشاح غرابةً هي الحياة. مع أنه لن توجد مخلوقات تستطيع العيش في ظروف كتلك التي عاشت بها وحوش حقبة ما قبل التاريخ كما صوّرها جول فيرن في قصته «رحلة إلى مركز الأرض»، فإن العثور على أي كائنات سيكون له دلالة كبيرة. تشير الاكتشافات الحديثة إلى إمكانية وجود مثل هذه المخلوقات التي تعيش في ظل ظروف قاسية.
اكتشف توليس أونستوت الأستاذ بجامعة برينستون العام الماضي ديدان أسطوانية مجهرية تعرف باسم النيماتودات تعيش على عمق مذهل يصل إلى ٤ كيلومترات في منجم للذهب في جنوب أفريقيا. ونظرًا لحجمها، شبّه أونستوت الاكتشاف بالعثور على موبي ديك في بحيرة أونتاريو (مجلة نيشتر، مجلد ٤٧٤، صفحة ٧٩). كما عثر أيضًا على ميكروبات وحيدة الخلية على أعماق أكبر تصل إلى ٥ كيلومترات تحت سطح الأرض.
تحت قاع البحر، ظهرت الميكروبات على عمق ١٫٦ كيلومترًا قبالة ساحل كندا الشرقي (مجلة ساينس، مجلد ٣٢٠، صفحة ١٠٤٦). ويعتقد الباحثون الذين عثروا على هذه الميكروبات أن عمرها ربما يصل إلى مئات الملايين من السنين. يقول جون باركس بجامعة كارديف في المملكة المتحدة: «لقد أوضحنا أن البكتيريا قد تنقسم ببطء، لنقل مثلًا مرة كل مائة ألف عام.» لا يبدو أن الضغط يمثل مشكلة بالنسبة للعديد من الكائنات التي تعيش في ظروف قاسية. في المختبر، تستطيع الميكروبات تحمل ضغط جوي يفوق الضغط العادي بألف مرة، كما تستطيع بعض البكتيريا العيش على عمق ١١ كيلومترًا تحت الماء في خندق ماريانا بالمحيط الهادي الغربي. يلعب الضغط في الواقع دورًا حيويًّا في النجاة تحت ظروف الحرارة اللافحة، لأنه يوقف غليان المياه؛ حيث قد يؤدي البخار إلى قتل الكائنات.
ومن ثم، قد تكون درجة الحرارة هي العامل الحاسم. فتحت نقطة الموهو مباشرةً، يعتقد علماء الجيولوجيا أنها تنخفض إلى ١٢٠ درجة مئوية. ويرى باركس أن «هذا يقترب على نحو مثير من الحد الأقصى المعروف الذي يمكن عنده استمرار الحياة؛ وهو ١٢٢ درجة مئوية». وُجد أن كائنًا عضويًّا يعيش فوق فتحات المحيطات الساخنة يستطيع النمو عند درجة الحرارة هذه عام ٢٠٠٨ (بروسيدينجز أوف ذي ناشيونال أكاديمي أوف ساينس، مجلد ١٠٥، صفحة ١٠٩٤٩).
لكن مات شرينك الأستاذ بجامعة إيست كارولينا في جرينفيل — الذي يدرس علم الأحياء المجهرية في البيئات القاسية — يعتقد أن احتمالات العثور على أحياء في وشاح الأرض ضعيفة. فبغض النظر عن الحرارة — على حد قوله — سيكون انتشار السوائل ضئيلًا ليتضاءل معه تدفق العناصر الغذائية أيضًا.
بالرغم من الشكوك التي تساور شرينك، فإنه يدعم مشروع «الحفر تحت نقطة الانقطاع الموهوروفيتشي إلى الوشاح» حيث يعتقد أنه قد يحدد معالم الحدود الفسيولوجية للحياة؛ بل إنه قد يساعد في دراسة تغير المناخ نظرًا لأن المحيط الحيوي في باطن الأرض ربما يؤثر في حركة دورة الكربون «العميق». قد يتضح أيضًا أن الحياة العميقة مفيدة في مجال الطب. ويضيف شرينك: «إذا كانت الكائنات العضوية منقرضة من الناحية التطورية، فإنها قد تحمل أنشطة فريدة أو تمتلك إنزيمات فريدة ذات استخدامات مفيدة في التكنولوجيا الحيوية.»
قد تساعدنا عينات الوشاح كذلك في كشف غموض دور الحياة الميكروبية في تطور كوكبنا. كشف بحث حديث أجراه عالم الفيزياء الجيولوجية نورمان سليب بجامعة ستانفورد في كاليفورنيا عن أن الحياة يمكن أن تمتد إلى داخل القشرة الأرضية كما أن منتجاتها — مثل الأمونيوم — يمكن أن تُسحب حتى أعماق أبعد. المصدر الأساسي للنيتروجين في الوشاح هو الأمونيوم الموجود بالأسفل في المادة العضوية (أنوال ريفيو أوف إيرث آند بلانيتاري ساينسز، مجلد ٤٠، صفحة ٢٧٧). هذا يضع احتمالية أن الحياة على كوكب الأرض الأولي غيرت تركيب الوشاح وقد تكون عينات مفيدة لدراسة الحياة أثناء هذه الفترة لا تزال موجودة في الوشاح. في المركز الوطني لدراسة علم المحيطات، يساهم تيجل وزملاؤه في جمع كل هذه الأسباب العلمية من أجل مشروع «الحفر تحت نقطة الانقطاع الموهوروفيتشي إلى الوشاح». في المختبرات العلوية، يُجري العلماء عمليات تحليل دقيقة لعينات اللب المأخوذة من الحفر التي حُفرت في المحيطات. ويُرجح أن يكون هذا هو موقع فحص العديد من عينات الوشاح الثمينة.
يرى تيجل أنه من الطبيعي استغراق كل هذه العقود لمواصلة العمل من حيث توقف مشروع «الحفر تحت نقطة الانقطاع الموهوروفيتشي إلى الوشاح». ويقول: «كانت التكنولوجيا والوقت والمال هي العوامل التي حالت فيما مضى دون الحفر إلى الوشاح.»
أولًا، يجب أن نأخذ في الاعتبار الدقة المطلوبة للحفر مسافة ٦ كيلومترات داخل القشرة تحت قاع المحيط. يقول تيجل: «سيكون الأمر أشبه بإنزال شريط فولاذي في دقة الشعرة البشرية إلى قاع حمام سباحة عمقه متران، ثم الحفر ٣ أمتار في أساساته.» هذا يعني ضرورة إنشاء حفار فائق الطول جديد من أجل شيكيو، التي تعجز عن الوصول إلى مثل هذه الأعماق حاليًّا.
سيلزم أيضًا توفير مواد جديدة. فعند عمل حفرة اتساعها ٣٠ سنتيمترًا في صخرة متحولة صلبة بسرعة متر في الساعة الواحدة، لا تدوم معدات الحفر أكثر من ٥٠ ساعة. كما يمكن أن تخفق على نحو كارثي، وتتهشم إلى أجزاء. ستحتاج المواد فائقة الصلابة التي يتم تطويرها من أجل المشروع إلى التكيف مع درجات ضغط تصل إلى ٢ كيلوبار ودرجات حرارة تصل إلى ٢٥٠ درجة مئوية.
ما يدعو للتفاؤل هو أن شركة الحفر في المياه العميقة «بليد إنيرجي»، توصلت من خلال تقييم مستقل نفّذته عام ٢٠١١ إلى أن المشروع ممكن إجراؤه من الناحية الفنية. يقول تيجل: «كان ما يحدث دائمًا هو أن يخترع أحد المهندسين أداة ذكية ثم يطلب من العلماء أن يدرسوا إمكانية استخدامها بطريقة ما. والآن تحفز احتياجات العلم ابتكارات التكنولوجيا على نحو متزايد.»
في الواقع، يتوقف نجاح الخطة على الإرادة السياسية والعلمية أكثر منه على التكنولوجيا. يقدر تيجل تكلفة تشغيل باخرة البحث وحدها بنحو مليار دولار أمريكي على الأقل. ولحسن الحظ، تتعهد الحكومة اليابانية بتغطية جزء كبير من هذه التكاليف. ومع أن هذا الاستثمار كبير، فإنه يمكن تفهمه إذا علمنا أن شيكيو قد تستطيع في النهاية المساعدة في التنبؤ بالزلازل. وليس اليابانيون وحدهم هم من يدعمون المشروع، فقد أعرب آخرون عن اهتمامهم به كذلك.
إذا فاز فريق مشروع «الحفر تحت نقطة الانقطاع الموهوروفيتشي إلى الوشاح» بموافقة رسمية خلال السنة المقبلة مثلًا، فإن أفراده يأملون في الوصول إلى ذهب الوشاح خلال عِقد. أولًا، يجب اتخاذ قرار بشأن اختيار أحد المواقع الثلاثة المرشحة للحفر، وجميعها يقع في المحيط الهادي. ومن بين المواقع المرشحة موقع مشروع الحفر تحت نقطة الانقطاع الموهوروفيتشي؛ وكل منها قريب نسبيًّا من وسط المحيطات، حيث تتكون قشرة أرضية جديدة. تدفع الصهارة المتصاعدة قاع البحر إلى أعلى عند هذه المنطقة، مما يجعل المياه ضحلة إلى حد يسمح بالوصول إلى القاع باستخدام حفار. كما أن الصخور في هذه المواقع الثلاثة قد بردت بما يسمح باختراقها بأمان، والأهم من ذلك، أن القشرة تكونت بسرعة، لذا يُتوقع أن تكون متسقة إلى حد كبير مما ييسر عملية الحفر.
سيكون الوصول إلى الوشاح مهمة بالغة الصعوبة، لكن تيجل يرى أن المشروع حيوي من أجل الإجابة عن بعض أهم الأسئلة التي يواجهها علماء الجيولوجيا اليوم. ويُعتقد أنه سيمنحنا فهمًا أكبر بكثير لكيفية تطور كوكبنا ويعرفنا بحدود الحياة. «سيتطلب المشروع تخطيطًا بحجم التخطيط لمهمة في الفضاء، ولكن تكلفته ستكون جزءًا ضئيلًا من تكلفة العودة إلى القمر أو جلب صخور من المريخ. مع هذا، فإن عينة أصلية من الوشاح ستكون بمثابة اكتشاف كنز دفين يثري الكيمياء الجيولوجية، مثل إعادة صخور بعثة أبوللو.»
Géographie General

الاثنين، 25 نوفمبر 2013

جغــــــــــرافية الســـــــــــكان


جغرافية السكان فرع من فروع الجغرافيا البشرية، التي تدرس العلاقات المتعددة القائمة بين الإنسان وبيئته، والسكان هم المحور الرئيسي، الذي تدور حوله، ومن خلاله، كثير من العلوم في شتى المجالات سواء كانت علوماً إنسانية أو تطبيقية.

وتعتمد الدراسات السكانية في دراستها على مجموعة من المصادر الإحصائية المختلفة أهمها:

(أ) التعدادCensus 1.


وهو المصدر الرئيسي لدراسة توزيع السكان وتركيبهم في قطر معين خلال فترة محددة، كما أنه يسجل خصائص متعددة للسكان، مثل توزيع السكان حسب العمر، والنوع، والمهن، والديانة، والحالة التعليمية، والنشاط الاقتصادي. ويعد المسح بالعينة Sample Survey، من العوامل المكملة للتعدادات السكانية في الحصول على بيانات توضح كل أو بعض خصائص السكان.

(ب) الإحصاءات الحيوية Vital Statistics


تعتمد العوامل المؤثرة في حجم السكان، إضافة إلى التعداد، على بيانات الإحصاءات الحيوية للسكان، التي تقوم على التسجيل الحيوي، الذي يشمل تسجيل المواليد، والوفيات، والزواج، والطلاق.

وإضافة إلى المصدرين السابقين، هناك سجلات الهجرة، التي تقوم بها نقط الجمارك والجوازات والجنسية في الموانئ، والمطارات، وأماكن العبور، ومن خلالها يمكن تتبع تدفق المهاجرين من القطر وإليه سنة بعد أخرى. وتضاف أعداد المهاجرين إلى أعداد السكان المواطنين وتعرف بالزيادة غير الطبيعية[2].

ويتضح مما سبق أن الدراسات الجغرافية للسكان تتناول ثلاثة جوانب رئيسية، هي: نمو السكان، وتوزيعهم على سطح الأرض، وتركيبهم (العمري، والنوعي، والاقتصادي، والديني، والتعليمي)، والأساس في هذه الدراسة هو العلاقات المكانية التي تميز جغرافية السكان عن الديموجرافياDemography[3]، ذلك العلم الذي يتناول السكان رقمياً بوصفه موضوعاً مستقلاً عن البيئة.

سنتطرق في هذا الموضوع إلى ثلاث نقاط رئيسية وهي :

- توزيع السكـــــــــــــــان .
- النمو الســــــــــــــكاني.
- التركيب الســـــــــكاني.


1. توزيع السكان :

يختلف توزيع السكان من إقليم إلى آخر على سطح الأرض، فيلاحظ أن هناك أقاليم تتركز فيها أعداد كبيرة من السكان، بينما يقل هذا التركز في أقاليم أخرى، ويكاد ينعدم في أقاليم ثالثة، ويعني هذا أن سكان العالم موزعون توزيعاً غير عادل على سطح الأرض، ويرجع ذلك إلى عدة عوامل، أهمها العوامل الطبيعية (كالمناخ ومظاهر السطح)، التي تؤثر في العمليات الإنتاجية والموارد الطبيعية، التي يمكن أن يستغلها الإنسان، وتعمل على تجمعه بأعداد متباينة، إلى جانب العوامل البشرية، التي تشمل المواليد، والوفيات، والهجرة، مما يؤدي إلى تباين معدلات النمو السكاني في الجهات المختلفة

ويختلف التوزيع السكاني حسب دوائر العرض اختلافاً جوهرياً وذلك لأن أقل من 10 % أقل من سكان العالم يعيشون في نصف الكرة الجنوبي، ومثل هذه النسبة يعيش بين خط الاستواء ودائرة العرض 20 شمالاً، وما يقرب من 50 % بين دائرتي عرض 20 شمالاً، 40 شمالاً، كذلك يعيش 30 % بين دائرتي عرض 40 شمالاً، و60 شمالاً، وأقل من نصف في المائة شمال دائرة العرض 60 شمالاً. أي أن حوالي أربعة أخماس السكان يعيشون بين دائرتي عرض 20 شمالاً، 60 شمالاً، على الرغم من أن هذا النطاق يشمل معظم صحاري نصف الكرة الشمالي، ويضم سلاسل جبلية وهضاباً مرتفعة كالهيملايا والتبت، إلاّ أنه يشمل منطقتي التركز السكاني الرئيسيتين في العالم، الأولى في جنوب شرق آسيا حيث يعيش نصف سكان العالم في حوالي 5 % من مساحة الأرض، والثانية في أوروبا ويعيش بها خمس سكان العالم ينتشرون على مساحة تقدر بنحو 5 % من مساحة اليابس. وقد أدى اختلاف التوزيع السكاني إلى اختلاف في كثافة السكان[4]، ومن ثم يمكن تحديد أكثر جهات العالم ازدحاماً بالسكان وأعلاها كثافة بأربع مناطق رئيسية وهي:

(أ) الجزء الجنوبي من قارة آسيا، الذي يضم الهند، وباكستان، وبنجلاديش، وسريلانكا، وبورما، وتايلاند، وكمبوتشيا، وماليزيا، واندونسيا، ويكون سكانه نحو 26.2% من إجمالي سكان العالم.

(ب) الجزء الشرقي من قارة آسيا والذي يشمل الصين الشعبية، واليابان، وكوريا، وتايوان، والفلبين، وفيتنام، وهونج كونج، وسنغافورة، ومنغوليا، ويكون سكانه نحو 27.8% من إجمالي سكان العالم.

(ج) قارة أوروبا وخاصة الجزء الغربي منها، ويمثل سكان هذا الجزء نحو 10% من إجمالي سكان العالم.

(د) الأجزاء الشرقية من قارة أمريكا الشمالية، ويسهم سكانها بنحو 5% من إجمالي سكان العالم.

2. النمو السكاني :


يعد حساب معدل النمو السكاني[5] لمنطقة ما أمراً ضرورياً في علم السكان، وترجع هذه الأهمية إلى أن الدقة في حساب معدل النمو السكاني تسهم مباشرة في دقة التقديرات السكانية.

وتساهم دراسة النمو السكاني في تحديد عدد السنوات، التي تستغرقها منطقة ما في الوصول إلى حجم معلوم، إذا استمر معدل النمو على ما هو عليه، فإذا كان معدل النمو السكاني في دولة ما 2% سنوياً، مثلاً، فإن عدد السكان في هذه الدولة سوف يتضاعف بعد 35 سنة فقط، ذلك لأن السكان يتزايدون وفق مبدأ الفائدة المركبة لا الفائدة البسيطة.


3. التركيب السكاني :


ويعني الخصائص الكمية Quantitative للسكان، التي يمكن التعرف عليها من بيانات التعداد، وأهم هذه الخصائص: التركيب العمري والنوعي، والتركيب الاقتصادي، والديني، واللغوي، والحالة الاجتماعية.

(أ) التركيب العمري والنوعي

تعد دراسة التركيب العمري والنوعي Age - Sex Composition، على قدر كبير من الأهمية في دراسة السكان، ذلك لأنها توضح الملامح الديموجرافية للمجتمع ذكوراً وإناثاً أو ما يعرف بنسبة النوع[6]، ويحدد التركيب العمري الفئة المنتجة في المجتمع، التي يقع على عاتقها عبء إعالة Dependency[7]، باقي أفراده، كذلك يعد التركيب العمري والنوعي نتاجاً للعوامل المؤثرة في النمو السكاني من مواليد، ووفيات، وهجرة التي لا يمكن اعتبار أحدها مستقلاً كلياً عن الآخر بل يؤدي أي تغير في أحد هذه العوامل إلى التأثير في العاملين الآخرين.

(ب) التركيب الاقتصادي

يمكن من خلال دراسة التركيب الاقتصادي Economic Composition، تحديد ملامح النشاط الاقتصادي وأهمية عناصره وارتباطها بظروف البيئة الجغرافية، ويمكن كذلك تحديد نسبة العمالة، وحجمها، وأهميتها، وخصائصها المتعددة، ومعرفة معدلات البطالة، وتوزيعها حسب العمر، والنوع، والمهنة، كما تُسهم دراسة التركيب الاقتصادي[8] في تحديد القوى العاملة في المستقبل اعتمادا على اتجاه معدلات التغير في نمو السكان وخصائصهم الاجتماعية وإسهام الإناث في القوى العاملة.

(ج) التركيب حسب الحالة المدنية (الزواجية)

تعنى الحالة المدنية (الزوجية) Marital Status، التوزيع النسبي للسكان الذين لم يسبق لهم الزواج والسكان المتزوجين والسكان المترملين والسكان المطلقين. ويؤثر التركيب العمري ونسبة النوع تأثيراً مباشراً على نسب السكان، الذين تضمهم هذه الفئات الأربع، كما تسهم الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في تحديدها واتجاهها. ولذلك فإن الحالة المدنية للسكان ليست ثابتة، بل دائمة التغير، وهي تعكس في ذلك ظروف المجتمع السائدة اقتصادياً واجتماعياً.

(د) التركيب حسب الحالة التعليمية

تشمل التعدادات السكانية توزيع السكان الذين بلغوا سن العاشرة أو الخامسة عشرة فأكثر، حسب الإلمام بالقراءة والكتابة Literacy، وغالباً ما تكون هذه البيانات موزعة حسب العمر والنوع. ولهذه البيانات أهمية خاصة في أنها تُعد مؤشراً لمستوى المعيشة، ومقياساً للحكم على التطور الثقافي والاجتماعي، كما أنها تُعد ذات أهمية خاصة في التنبؤ بالاتجاهات التعليمية المستقبلة وفقاً للخطط الموضوعة. وفي الدول، التي تتزايد فيها نسبة الأمية Illiteracy، تكون بيانات التركيب السكاني حسب الحالة التعليمية Educational Status، ذات فائدة مباشرة في التخطيط لمحو الأمية في مناطق الدولة المختلفة.

(ه) التركيب اللغوي

من المعروف أن اللغة[9] أساس قيام الحضارة فهي تُعد مصدراً للشعور الوطني المشترك، والوحدة الثقافية تكون أقوى بكثير من الجنس والسلالة في المشاعر القومية، ولا شك أن وجود مجموعات تتكلم لغات مختلفة داخل البلد الواحد يُحدث كثيراً من المشكلات السياسية ويقود إلى مشكلات اجتماعية واقتصادية قد تُحدث الانقسام في حياة الشعب.

ويُعد التركيب اللغوي Linguistic Composition، مهماً في الدول التي تتعدد فيها اللغات، فهناك أقطار كثيرة في العالم فيها لغات متعددة لمجموعات سكانية متفاوتة في أهميتها العددية كما هو الحال في الهند، وباكستان، وأندونيسا، ونيجيريا. ويذكر الكتاب السنوي الديموجرافي لعام 1956، ثلاثة أنماط من البيانات عن اللغات التي تشملها معظم التعددات وهي:

× اللغة الأصلية Mother Language وهي اللغة التي يتحدث بها الشخص في موطنه (في طفولته المبكرة).

× اللغة التي يجري الحديث بها في الوقت الراهن (أو يتحدث بها عادة في الموطن).

× المعرفة بلغة أو لغات معينة

ويُستخدم النوع الأول في المقارنة بين المجموعات السكانية حسب لغاتها المختلفة. أمّا النوعان الأخيران فتكتنفهما صعاب في مثل هذه المقارنة، إلاّ أن قيمتهما تبدو في الدراسات الخاصة بتكيف المهاجرين مع المجتمعات الجديدة ذات اللغات المختلفة الأصلية.

ويندر أن تتمشى الحدود السياسية تماماً مع الحد اللغوي للدولة، لكنها ساعدت على وجود تجانس لغوي في معظم الأحوال وأصبحت لغات الدول العظمى، التي أثرت في خريطة العالم السياسية لغات عالمية مثل الإنجليزية، والفرنسية، والأسبانية.

(ر) التركيب الديني

تتباين أقاليم العالم في توزيع الأديان بها، ولكن هناك أربعة أديان كبرى تدين بها الغالبية العظمى من سكان العالم، وهي الإسلام، والمسيحية، والهندوكية، والبوذية. وهي تنتشر في مساحات كبيرة من اليابس، ومع ذلك فهي لا تكون تجمعات بشرية متجانسة، ولا تخلو من وجود شقاق بينها.

وينعكس تباين التركيب الديني Religious Composition، على بعض المشكلات في العالم، فقد أدى ذلك التباين إلى تقسيم شبه القارة الهندية، وإلى خلق مشكلات أخرى، مثل مشكلة إيرلندا، وقبرص، والقليل من دول العالم تتميز بالتجانس الديني الكامل مثل المملكة العربية السعودية والدول الاسكندينافية، التي تعد من أكثر الدول البروتستانية تجانساً، ودول أمريكا الجنوبية التي تعد أكثر الدول الكاثوليكية تجانساً.

وعلى الرغم من أن السكان يختلفون حسب عقائدهم الدينية، فإن التركيب الديني قد لا تشمله بعض التعدادات السكانية، لصعوبة الحصول على بياناته بدقة إذا قورنت بالخصائص السكانية الأخرى. كما أنه من الصعب جداً قياس المعتقدات الدينية والسلوك قياساً إحصائياً عن طريق جمع بيانات عنها، لذا فإن هناك دولاً كثيرة لا يتضمن تعدادها مثل هذه البيانات كما هو الحال في بريطانيا.

شــــــرح المصـطلـحـات :


[1] التعداد: هو العملية الكلية لجمع، وتجهيز، وتقويم، وتحليل، ونشر البيانات الديموجرافية والاقتصادية، والاجتماعية المتعلقة بكل الأفراد في قُطر معين وزمن محدد. ويتم التعداد بصورة دورية لا سنوية. وعُرف التعداد في الأزمنة القديمة، في مصر الفرعونية والدولة الرومانية، إلاّ أن أقدم تعداد في العصر الحديث قد أُخذ في أسكنديناوه وبعض الولايات الإيطالية والألمانية خلال القرن الثامن عشر، فقد أخذ أول تعداد في أيسلندا عام 1703، والسويد عام 1749، والنرويج عام 1760، والدانمارك عام 1769، وأسبانيا عام 1787، وفي الولايات المتحدة الأمريكية عام 1790، وبريطانيا عام 1801، وفي مصر عام 1882.

[2] الزيادة الطبيعية هي الفرق بين المواليد والوفيات.

[3] تعرف الدراسة العلمية باسم الديموجرافيا Demography، أو علم السكان، وهو مصطلح يتكون من مقطعين إغريقيين هما Demos وتعني شعب أو سكان، وGraphia، وتعني وصف أو شكل، وبذلك يكون معنى المصطلح "وصف السكان". والديموجرافيا علم إحصائي يهتم بدراسة حجم، وتوزيع، وتركيب السكان.

[4] الكثافة Density: هي أبسط أنواع المقاييس المستخدمة في دراسات السكان، وتعني جملة السكان في وحدة مساحية معينة، وتُعرف بالكثافة الحسابية أو الخام Crude Density = جملة السكان في منطقة ما ÷ إجمالي المساحة الكلية لهذه المنطقة، بما أن السكان يعيشون في المناطق المعمورة فقط، فإن الكثافة في هذه الحالة تُعرف بالكثافة الفزيولوجية Physiological Density = جملة عدد السكان في منطقة ما ÷ إجمالي المساحة المعمورة، وهي بالتالي تعطي صورة أدق من الأولى.

[5] يُحسب معدل النمو بطريقتين، تعتمد الأولى على حساب الفرق بين أعداد السكان في تعدادين مختلفين، وتعتمد الثانية على تقدير معدل التغير من سجلات المواليد والوفيات والهجرة.

[6] نسبة النوع Sex Ratio، وتعرف بنسبة الذكورة. وهي عدد الذكور لكل مائة من الإناث، وتراوح نسبة النوع عند المواليد بين 104 إلى 106، أي أن عدد المواليد من الذكور يزيد على مثلهم من الإناث، وتُعد زيادة أعداد المواليد الذكور على المواليد الإناث ظاهرة طبيعية في معظم الثدييات والإنسان من بينها. ومن المؤكد أن معدلات وفيات الُرضع والمواليد موتى من الذكور تفوق مثيلتها من الإناث.

[7] تمثل الفئة العمرية (15 ـ 64) قوة العمل Labour Force، وهي تعول الفئة، التي تصغرها والفئة، التي تكبرها، وتُعرف بنسبة الإعالة الكلية Total Dependency Ratio.

[8] حددت الأمم المتحدة (مكتب العمل الدولي International Labour Office I.L.O) أنواع النشاط الاقتصادي في تصنيف خاص. يسمى التصنيف الدولي الموحد للنشاط الاقتصادي: وينقسم إلى ثلاث مجموعات: ـ. محموعة الأنشطة الأولية: Primary Group (وتشمل قطاع الزراعة، والرعي، والغابات، وصيد البر والبحر). ب. مجموعة الأنشطة الثانوية: Secondary Group (وتضم قطاع المناجم، والمحاجر، والصناعات التحويلية، والبناء، والتشييد). ج. مجموعة الأنشطة الثالثة: Tertiary Group (وتشمل الكهرباء، والغاز، والمياه، والتجارة، والنقل، والمواصلات، والخدمات).

 
[9] يختلف سكان العالم اختلافاً كبيراً من حيث اللغات التي تكلمون بها والتي يربو عددها على 2800 لغة، ينتمي الكثير منها إلى أصل سامي واحد، وهو توزيع المستشرق الروسي دياكونوف Diakonoff . 1. سامية النجوم الشمالية، وتشمل الأكادية، والبابلية، والآشورية. 2. السامية الشمالية الوسطى، وهي على حِقَبْ زمنية ثلاث: أ. الحقبة القديمة، وتشمل الكنعانية، والأوغاريتية، والعمّورية في فلسطين، وسورية، وأراضي الجزيرة بالعراق. ب. الحقبة الوسطى، وتشمل الفينيقية، والعبرية، والمؤابية، والآرامية القديمة. ج. الحقبة الحديثة، وتشمل الآررامية الغربية الجديدة أو "معلولة" في سورية، والآشورية الحديثة في العراق، وتركيا، وإيران، والاتحاد السوفيتي. 3. السامية الجنوبية الوسطى، وتشمل: العربية الفصحى. د. سامية النجوم الجنوبية وتشمل: أ. الحقبة القديمة الأخيرة ويمثلها المسهرية، والشحري، والحرسوس، والبطحري على الشطآن العربية للمحيط الهندي، والسوقطرية في جزيرة سوقطرة.
géographie General

الأربعاء، 20 نوفمبر 2013

مياه لم تُستكشف بعد: استكشاف طبقات المياه الجوفيَّة لمنع نشوب الحرب

تكاد تأتي جميع مياهنا العذبة من مستودعات جوفيَّة غير واضحة، والآن تخبرنا الأقمار الاصطناعية والنظائر المشعة كم لدينا من مياهٍ لسد حاجتنا.
حافة الماء. 
على أعماق غائرة في بطن شرق الصحراء الكبرى، كان خزان مياه الحجر الرملي النوبي في خطر؛ ففي مطلع العقد الأول من الألفية الجديدة، كان الخزان — وهو أحد أكبر وأقدم مستودعات المياه الجوفيَّة في العالم، ويغذي ليبيا ومصر وتشاد والسودان — ينفد بسرعة. كانت مصر تستغل ماء الخزان كي تغذي مدنها الصحراوية المتنامية البعيدة عن النيل، وكانت ليبيا — التي لا تملك مصدرًا آخر للماء سوى الماء المالح للبحر المتوسط — تسحب المياه عن طريق شبكة أنابيب جوفيَّة وقنوات اصطناعية تُعرف باسم «النهر الصناعي العظيم»، الذي يصفه الليبيون بأنه أعجوبة الدنيا الثامنة.
سرعان ما أخذت واحات الصحراء الكبرى في الجفاف؛ مما تسبَّب في نقص المياه اللازمة لمجموعات البدو والحياه البريَّة، لكن لم يمكن تحديد المسئول؛ فنظام الخزان القديم كان غاية في التعقيد، وكان من المستحيل أن تحدد بالضبط الطرفَ الذي يُفرط في استهلاك المياه، أو حتى تقدِّر متى ستنفد.
ولأنه لم تكن أي من الدول تثق في أن الدول الأخرى ستقدم تحليلًا حياديًّا؛ لم يمكن لإحداها الوصول إلى اتفاق بشأن أي خطوات تتخذها لحماية الخزان، إذا كانت ستتحرك من الأساس، وهدد انعدام الثقة وقلة التعاون بالتدهور إلى ما هو أسوأ.
كشف الصراع عن حقيقة بسيطة كانت منسيَّة بشكل ما، وهي أن معظم مياه الشرب في العالم مستترة تحت الأرض، وليس لدينا خيط يرشدنا إلى ما يحدث لها، لكن مع زيادة تعداد سكان العالم وظهور آثار تغير المناخ، أصبح هناك شيء واحد مؤكد، وهو أننا لم نعد نستطيع الاعتماد على أن الماء سيكون متوفرًا حيثما نتوقع أن نجده؛ فمياهنا الجوفية تتبدد في المحيط حيث تُهدر بمعدلات مهولة وتتلوث على نحو يتعذر تغييره، في الوقت الذي تحتدم فيه الادعاءات بأحقية ما تبقى. ولن يمر وقت طويل قبل أن يسبب العجز في المياه وقوع الجفاف على نطاق واسع وتبدأ حرب المياه الأولى.
كيف لنا أن نحُول دون وقوع هذا؟ الخطوة الأولى هي أن نعرف أين الماء؛ فلم تعد الخرائط التقليدية كافية عند التعامل مع هدف متحرك غير مرئي، لكن هناك أمل يلوح في الأفق؛ إذ تبدأ وسائل الفيزياء والهندسة الحديثة والمذهلة في تقديم أول صور واضحة عن مياه العالم المستترة، وقد كشفت بالفعل عن بعض الأخبار الرائعة غير المتوقَّعة، غير أن نجاحها الحقيقي يكمن في إمكانية وضع خريطة للعالم لمصدر أثمن من النفط، وهو الماء.

على الرغم من أن هذه الخريطة تشمل ٩٧٪ من مياه العالم العذبة المتاحة — حسب آخر تقدير لبرنامج الأمم المتحدة البيئي — فإننا حقًّا لم نكلف أنفسنا قَطُّ عناءَ الحصول على صورة واضحة للمياه الموجودة تحت أقدامنا. يؤثر معظم علماء الهيدرولوجي دراسة المياه الموجودة على سطح الأرض. يقول بيتر جليك عالِم المناخ المائي الذي يدير «معهد المحيط الهادي» أحد بيوت الخبرة المستقلة في أوكلاند بكاليفورنيا: «قطعًا عانت المياه الجوفية من مشكلة (البعيد عن العين، بعيد عن الخاطر).»
سيندهش معظم الناس لدى سماع هذا؛ فرغم كل شيء كان من السهل استخدام المياه المستترة في الطبقات الجوفية؛ فهذه الخزانات الجوفية شاسعة للغاية. على سبيل المثال، تتجاوز المياه الموجودة في طبقة المياه الجوفية (أو خزان) جواراني بأمريكا الجنوبية — والتي تصل إلى أربعين ألف كيلومتر مكعب — إجمالي المياه الموجودة في كافة البحيرات العظمى بأمريكا الشمالية بكثير، غير أن هذه المياه لا تتجمع في بحيرة جوفية كبيرة، إنما تتحرك عادةً ببطء عبر طبقات معقدة من الصخور المسامية، والرمال والعوامل الجيولوجية الأخرى. وعلى خلاف البحيرة، لا يتوقف مدى نفعها على كم ما بها من ماء فحسب، وإنما أيضًا على مدى سرعة إعادة امتلائها بمياه الأنهار أو الجليد الذائب.

بيئات طبيعية جافة

يوضح عدد كبير من الخرائط مكان الطبقات الجوفية الموجودة في العالم، غير أن هذه الخرائط لا تأتي على ذكر كَمِّ الماء الذي تحتوي عليه الطبقات، أو سرعة تغيُّر مناسيب المياه، أو حتى صلاحية الماء للشرب؛ فمع زيادة تعداد سكان العالم يزيد الطلب على المياه، لكن هذا ليس السبب الوحيد للمخاوف؛ فالتغير المناخي يعيد تدريجيًّا توزيع مياه العالم. وفيما ترتفع درجة حرارة الكرة الأرضية، يتحول الترسيب من خطوط العرض الوسطى إلى خطوط العرض الدنيا والعليا، وتصبح المناطق الرطبة أكثر رطوبة، والجافة أكثر جفافًا؛ مما قد يعلل الجفاف الذي فاق كل الحدود في شرق أفريقيا وتكساس العام الماضي. وتعني قلة الأمطار عند خطوط العرض الوسطى نقص المياه الجديدة اللازمة لإعادة ملء الطبقات الجوفية الآخذة في النفاد بأسرع ما يمكن، ويعني هذا أن المزيد من الطبقات الجوفية ستصير مثل الخزان النوبي: مصدرًا غيرَ مستقرٍّ وسط بيئة طبيعية جافة.
ولكي نكتشف كمَّ الماء الذي يمكن أن نحصل عليه على الدوام من مثل هذا النظام الهش، لا بد أن نعرف شيئين: عمر الماء، وسرعة إعادة امتلائه.
حتى عهد قريب كانت الطريقة الوحيدة للحصول على هذه النوعية من البيانات هي دراسات «بئر السبر» المكلِّفة والمُهدرة للوقت، وتتضمن هذه الدراسات حفر الكثير من الآبار الضيقة لرصد سرعة واتجاه تدفق الماء، ثم استخدام هذه البيانات من أجل إنشاء نموذج للطبقة الجوفية.
بيد أنه في حال الخزان النوبي، كانت هذه الدراسة مستحيلة، ومن أسباب هذا أنها ستكون باهظة التكلفة، وكثير من مواقع الحفر ستكون في الصحراء النائية. غير أن الأهم من هذا أن مثل هذه الدراسات المكثفة تتطلب ميلًا سياسيًّا يحركها، ولمَّا قوبلت دراسات بئر السبر السابقة برِيبة؛ فإن شبكة مكثفة من آبار السبر في أنحاء البلدان الأربع ستكون صعبة التبرير.
مع ذلك، جاء الحلُّ من جهة غير متوقعة، من وكالة الطاقة الذرية الدولية (المعروفة اختصارًا آي إيه إي إيه)؛ فإلى جانب عملها في مجال الطاقة الذرية والأسلحة، تستخدم الوكالة أيضًا النظائر المشعة لتحليل الماء. دأب براديب أجاروال (مدير قسم هيدرولوجيا النظائر المشعة في الوكالة) على استخدام النظائر لاختبار المياه السطحية طيلة عقود، ووجد فرصة لمساعدة الخزان النوبي؛ ففي عام ٢٠٠٦ أطلق أجاروال وتشينج-تيان لو (الفيزيائي بمختبر أرجون الوطني بولاية إلينوي) مشروعًا كبيرًا بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ووكالات أخرى من أجل تصميم خريطة شاملة للخزان. فاختبار النظائر ليس فقط أرخص بكثير؛ لأنه لا يقتضي سوى أخذ عينات قليلة من الماء من الآبار الموجودة، ولكن هذه العينات القليلة تكفي للكشف عن حالة الخزان بأكمله. يقول أجاروال: «يمكن أن يخبرنا قياس النظائر في بقعة واحدة بما يحدث على بُعد عشرات بل ومئات الكيلومترات.»
وقد احتاجا أن يكتشفا أولًا عمر الخزان، ومن أجل هذا الغرض لجأ الفريق إلى الكربون-١٤. وعلى غرار الملاحظات العلمية القديمة، يمكن تحديد عمر الماء باستخدام هذا النظير المشع، فيمتص الماء الموجود فوق سطح الأرض بعض الغازات من الجو — بما فيها ثاني أكسيد الكربون — مما يجعله يصطبغ بصبغة الجو المشبعة بمزيج من النظائر، وعندما يختفي الماء في وقت لاحق ليذهب إلى إحدى الطبقات الجوفية؛ فإنه يصطحب معه هذه الصبغة الفريدة، وبمرور الوقت يخضع كربون-١٤ لتحلُّل إشعاعي، والكمية المتبقية في إحدى عينات الماء يمكنها أن تكشف عن عمر الماء.
اتضح أنه لم يتبقَّ فعليًّا كربون-١٤ في عيناتهم، ودلَّ هذا على أن المياه شديدة القدم.
اتفقت هذه النتيجة مع دراسات الكربون-١٤ السابقة، التي رجحت أن عمر الخزان النوبي ٤٠٠٠٠ سنة. غير أن أجاروال أدرك أن هذا الرقم اقترب من حدِّ التأريخ الذي يبلغ ٥٠٠٠٠ سنة، مما أثار الشكوك بشأن دقة هذه النتيجة؛ لذا لجأ إلى الكريبتون-٨١ — وهو نظير مشعٌّ نادر تعلم الباحثون مؤخرًا فحسب كيفية التقاطه وحسابه — الذي يستطيع أن يحدد على وجه الدقة عمر الماء الذي يعود إلى مليوني سنة، واكتشف تشينج-تيان لو أن دراسات الكربون-١٤ كانت مخطئة إلى حدٍّ بعيد؛ إذ يقترب عمر قدر كبير من الماء في الخزان النوبي من المليون عام.
لكن معرفة عمر الماء وحده لم تكن كافية، وللإلمام بصورة كاملة عن الخزان احتاج أجاروال أن يعرف هل أُعيد امتلاء أي جزء منه بمياه جديدة.
فعل الفريق هذا عن طريق دراسة نظيرين من الذرات يكوِّنان جزيء الماء، وهما الديوتيريوم والأكسجين-١٨. تحوي كل قطرة من الماء نسبة موحية من هذين النظيرين؛ مما يوفر خيوطًا تشير إلى المناخ عند مصدر المياه. ينخفض كِلَا هذين النظيرين الثقيلين في المناخات الأكثر برودة؛ ومن ثَمَّ ستوحي العينة ذات التركيز المنخفض من الأكسجين-١٨ والديوتيريوم أن آخر مرة تجمعت فيها مياه جديدة كان المناخ بالقرب من الخزان النوبي أكثر برودة.
وكما هو متوقع، أكدت عينات الديوتيريوم والأكسجين-١٨ أنه ما من مياه جديدة تجمعت هناك إبان العصور الحديثة، واحتوى الخزان فقط على «مياه حفرية» احتُجزت تحت سطح الأرض لفترة طويلة. بعبارة أخرى، لم يُعَدْ ملء الخزان، ويومًا ما سوف يجف.
كانت هذه الأخبار سيئة، بيد أن أجاروال استطاع بفضل دراسات النظائر أن يحسب إجمالي المياه المتبقية في الخزان. قد تكون تلك المياه قديمة، لكن اتضح أن هناك ما يكفي من هذه المياه الحفرية ليدوم لقرون عديدة على أقل تقدير. ليس هذا فحسب، لكن المياه تتدفق ببطء شديد حتى إنَّ سحب أحد البلدان لا يؤثر مباشرة في بلد آخر. يقول أجاروال: «من ثَمَّ ليس على تشاد أن تقلق من سرقة ليبيا لمياهها.»
في أعقاب النتائج التي توصلت إليها وكالة الطاقة الذرية الدولية، أخيرًا اتفقت البلدان المعتمدة على الخزان النوبي أنها في حاجة إلى العمل معًا من أجل حمايته؛ مما أنهى توترًا دام لعقد من الزمان. يقول أجاروال: «استطعنا أن نكوِّن نموذجًا يمكن الاعتماد عليه قبلت به البلدان الأربع.» وأكملت الوكالة تقريبًا أطلس العالم الذي يضم العملَ الذي قاموا به في خزان الصخر الرملي النوبي، وفي النهاية يأمل أجاروال أن يعد خريطة توضح المياه الجوفية في العالم بناء على العمر ومعدل إعادة الامتلاء (انظر الخريطة).
لكن لا شيء من هذا يمكن أن يفيد أيًّا من الواحاتِ المحلية الآخذة في الجفاف، ومعها أيضًا إحدى البحيرات في ليبيا، ويُعزى هذا إلى أن التوترات السياسية ليست المشكلة الوحيدة التي تنطوي عليها قضية المياه في العالم.
حتى عندما تغذي طبقة جوفية بلدًا واحدًا فقط، لا يتضح دائمًا من الذي يستخدم المياه أو لأي غرض يستخدمها. يقول جليك: «لطالما كنا نُفْرِطُ في سحب المياه الجوفية ونحن على دراية بذلك لعقود من الزمان، غير أن السياسات لا تزال غير قادرة على التعامل مع الأمر.» وللحصول على تقرير شامل عن استخدام المياه الجوفية، ينبغي للدول والقطاعات أن تقيس معدل استخدامها الفعلي وغير المباشر للمياه الجوفية، وهو الأمر الذي لا يفعله إلا قليلون.
توصل الآن جاي فاميليتي وفريقه بجامعة كاليفورنيا بمدينة إرفاين إلى طريقة لتجنب هذا؛ وذلك عن طريق تعقب التغيرات الفورية التي تطرأ على المياه الجوفية بالعالم من الفضاء، ولفعل هذا يعتمدون على بيانات من «القمر الصناعي المزدوج لتغطية حقل الجاذبية واختبار المناخ» التابع لناسا الذي يقيس التنوع في مجال جاذبية الأرض، وتستخدم التجربة قمرين صناعيين يدوران على بُعد نحو ٢٢٠ كيلومترًا من بعضهما البعض، وعندما يحلق القمر الأول فوق منطقة جاذبية أشد — وليكن مثلًا فوق جبل أو طبقة جوفية عملاقة — فإنه يقترب مؤقتًا من الأرض ويبتعد عن القمر الصناعي الذي يتعقبه، وبقياس التغيرات في المسافة بين القمرين، يمكنهما رسم خريطة مفصلة لمجال جاذبية الأرض.
لم تقف مجموعة فاميليتي عند هذا الحد، بل استطاعوا أن يربطوا بين بيانات الجاذبية الصادرة عن القمرين الصناعيين وبين تغيُّرات هامة تطرأ على الطبقات الجوفية بسبب المواسم الرطبة والجافة، وفترات الجفاف الطويلة، واستخراج المياه من أجل التعدين أو الزراعة.

خريطة جديدة جذرية

نشر الفريق عام ٢٠١١ دراسة مدهشة ومثيرة للجدل توضح أن خزانًا رئيسيًّا أسفل سنترال فالي بكاليفورنيا آخذ في استنفاد مخزونه على نحو أسرع من المتوقع، بسبب مزارع الخس المتعطشة للمياه، وأخبر فاميليتي العام المنصرم مجلة «نيو ساينتيست» أنه إذا استمرت حالة الزراعة غير المنضبطة فإن الخزان سيجف بحلول عام ٢١٠٠.
يصمم فاميليتي الآن — شأنه شأن أجاروال — خريطة عالمية تستند إلى المعلومات التي جمعها من تجربة القمر الصناعي المزدوج، والنتائج التي توصل إليها تستدعي التفكير بجدية؛ فنحن نستنزف كافة الطبقات الجوفية الرئيسية بالعالم الواقعة عند خطوط العرض الوسطى، وكما هو الحال في كاليفورنيا، المتهم الرئيسي هو الزراعة التي تستهلك كميات هائلة من المياه.
والزراعة ليست القطاع الوحيد المصحوب بالآثار السيئة. يقول فاميليتي وفريقه إنه قد تشير خريطتهم إلى استنزاف خطير للمياه الجوفية في مناطق التعدين في أستراليا، ويضيف: «أجل، نعرف أن التعدين يتطلب قدرًا هائلًا من المياه، لكن هل عرض عليهم أحد من قبلُ خريطة مثل هذه؟ كلا.» يلعب أيضًا التفاوت في سقوط الأمطار دورًا، مع أن فريق فاميليتي لا يزال عليه أن يحدد حجم هذا الدور على وجه الدقة، لكن الأمر المؤكد هو أن المياه تتحرك. يقول فاميليتي: «عندما ترى هذه البقعة الحمراء الكبيرة التي تغطي خُمس أو سُدس القارة، فإنها ستثير دهشتك.»
يستطيع القمر الصناعي المزدوج أن يتعقب فحسب التغيُّرات في الطبقات الجوفية التي تتجاوز مساحاتها ١٥٠٠٠٠ كيلومتر مربع. ومع ذلك، فإن الجمع بين النتائج الصادرة عن القمر الصناعي المزدوج وبين الحسابات العمرية التي توصلت إليها دراسات النظائر سيقدم تقديرًا تقريبيًّا لإجمالي كمية المياه في الطبقة الجوفية موضع الدراسة. يقول فاميليتي إننا إذا فعلنا هذا مع كل الطبقات الجوفية، فسوف نحصل على أول صورة توضيحية لكَمِّ المياه العذبة المخزنة تحت الأرض، وإلى أين تذهب. والأكثر من ذلك أنه قد تتيح لنا هذه المعلومات التنبؤ بوقوع عجز في الموارد المائية، ربما مع التحذير الكافي للبلدان كي تخفف من الآثار المترتبة على هذا العجز أو حتى منعها تمامًا.
لا تزال هذه النوعية من المشاريع في بدايتها، ينفِّذ أحدَها أحد تلامذة فاميليتي السابقين في الدراسات العليا، ويُدعى مات روديل، والذي يحلل بيانات مياه الولايات المتحدة في وكالة ناسا. أثبتت مجموعة روديل في ديسمبر أن الجفاف الذي لم يحدث له مثيل من قبلُ في تكساس — وهو أكثر فترة شهدتها تكساس منذ تسعينيات القرن التاسع عشر جفافًا (وتبلغ اثني عشر شهرًا) — قد قلل مناسيب المياه الجوفية في مناطق عدة من الولاية لتصل إلى أدنى منسوب لها طيلة ٦٠ عامًا. وكان توقُّعهم بأن إعادة ملء الخزان ستستغرق شهورًا كافية لتحفيز الولاية على تطوير وسائل أكثر فعالية للحفاظ على المياه.
في بعض الحالات — على سبيل المثال — من الممكن التصدي للجفاف من خلال إعادة ملء الطبقة الجوفية صناعيًّا بمياه فضلات مطهَّرة كي تظل ممتلئةً، وقد فعلت كاليفورنيا هذا طيلة عقود. وتجرب مصر اتباع نفس الوسيلة في جزء ضحل حديث العهد من الخزان النوبي من خلال تغذيته بمياه من النيل.
إذا استطعنا تحقيق فهم شامل كافٍ لمياه العالم، فلربما يحدث القليل من المفاجآت السارة؛ فعلى الرغم من أن العثور على كميات كبيرة من المياه العذبة الجديدة غير محتمل، فإنه من الممكن أن تكشف مثل هذه الخريطة عن موارد صغيرة. في شبه جزيرة سانتا إيلينا الجافة التي تقع بالإكوادور — على سبيل المثال — كان لدى سكانها ثلاث آبار فحسب تمدهم بالمياه على نحو متقطع، لكن بعد دراسة النظائر التي قامت بها وكالة الطاقة الذرية الدولية عام ٢٠٠٩، حفر السكان أربع آبارٍ مستديمة توفر لهم المياه على مدار اليوم. وفي بنجلاديش، حيث كان الزرنيخ الموجود في الماء يصيب ملايين الأفراد بالتسمم، حددت أبحاث النظائر خزانات لم تكن معروفة من قبل وكانت مياهُها صالحة للشرب.
لن تعيد الخرائط وحدها ملءَ الواحات في الصحراء بالماء، لكنها مفتاح للتأكد من أن جميعها لديه ما يكفي من المياه. وفي النهاية، لن يكون منع الصراعات حول الماء متعلقًا بالكميات المحددة من المياه قدر ما سيكون مرتبطًا بالتوزيع العادل لما هو متاح. وتتمثَّل الخطوة الأولى في معرفة أين تذهب المياه ومن الذي يأخذها. وحتى وسط كل الأخبار السيئة، ثَمَّةَ بارقة أمل؛ ففيما ينتبه المزيد من البلدان — من كندا إلى الهند إلى أستراليا — للمشكلة ويبدءون في تعقب مياههم المستترة، تتطور الوسائل التي من شأنها أن تساعدهم في فعل ذلك. 
Géographie General

الثلاثاء، 19 نوفمبر 2013

آسيا والنظام العالمي القديم

 يتكهن بعض المعلقين بأن القرن الحادي والعشرين سيكون هو «القرن الآسيوي»، الذي سيشهد انتقالًا ملحوظًا للنفوذ من الغرب إلى الشرق. وإذا كان الأمر كذلك، فلن يكون الوضع شديد الاختلاف عن النظام العالمي الذي كان سائدًا في القرن التاسع عشر، بحسب قول توماس دوبوا.
«السور الأمريكي يرتفع، بينما سور الصين الأصلي يُهدم.» نُشرت في مجلة بَك، عام ١٨٨٢. تنفتح الصين على التجارة، في الوقت الذي تستخدم فيه أمريكا العمالة العرقية لتقييد الهجرة. مكتبة الكونجرس.  
 لم يُعترَض الطريق أمام هيمنة المُثُل والقيم والتقاليد الغربية على العالم فيما يبدو حتى عقد التسعينيات من القرن العشرين؛ إذ كان الاتحاد السوفييتي قد انهار، وكانت الاضطرابات تعصف بالصين، وكانت شركات الكمبيوتر والإنترنت في كاليفورنيا في حالة ازدهار. وبدت الأزمة المالية الآسيوية التي وقعت عام ١٩٩٧ بمنزلة تبرئة نهائية لمؤسسات الغرب الاقتصادية النزيهة والمنفتحة من رأسمالية المحسوبية التي كانت تُمارس في دهاليز الغرف السرية في بلدان النمور الآسيوية الوضيعة. وبدت اعتراضات الزعماء السياسيين مثل السنغافوري لي كوان يو والماليزي مهاتير محمد، دفاعًا عما أسموه «القيم الآسيوية»، وكأنها حبات عنب صغيرة فاسدة في طريق آلة التاريخ العملاقة.
كم ابتعدنا عن هذا الآن! فبعد عقدين من إعلان فرانسيس فوكوياما المزهو بالنصر عن «نهاية التاريخ»، واجهت أمريكا وأوروبا ما يبدو للكثيرين وكأنه مستقبلُ تضاؤلِ تأثيرهما العالمي، ولا سيما أن نجم آسيا آخذٌ في البزوغ على نحو لا يمكن كبح جماحه فيما يبدو وكأنه نهاية العالم بالنسبة لهما. وما من شكوك كبيرة في أن آسيا ستستمر في تشكيل وجه العالم خلال القرن القادم. ومع ذلك، إذا كنا سنوافق على العبارة التي نسمعها كثيرًا والتي تقول إن القرن التالي «ملكٌ» لقارة آسيا، فقد ننجح في إدراك أن القرن الماضي كذلك كان ملكًا لقارة آسيا بطرق عدة.
يتطلب الأمر منا الرجوع إلى الماضي بشيء من الحنين لتخيُّل أن النظام العالمي الحالي، ذلك النظام الذي تُهدد آسيا على الأرجح بتغييره تمامًا، كان ينتمي للولايات المتحدة بقدر ما كان ينتمي يومًا إلى الإمبراطورية البريطانية وهي في أوجها. وهذا لا يعني أن القوة الإنجليزية ونظيرتها الأمريكية، التي تلت إحداهما الأخرى، لم يكن لهما تأثير تحويلي على العالم، بل كان لهما بلا شك ذلك التأثير؛ وإنما باتت كلتاهما عالمية على وجه التحديد بسبب تكيُّفهما على نحو مبتكر مع الحقائق الجديدة.
لقد كان عالم الإمبراطوريات في ترابط محكم على نحو مميز؛ إذ كانت الإمبراطورية البريطانية — في أوج مجدها — أكبر وأنجح جبهة تجارية في التاريخ، حيث صنعت حلقة تجارية ربطت ست قارات ليس ببريطانيا وحدها، وإنما بعضها ببعض كذلك. وقد ساعدت الإمبريالية الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر في إرساء قواعد المؤسسات السياسية والمالية والعلمية والدينية التي نظنها تُشَكِّل أساس النظام العالمي الحالي. لكن التأثير يجري في الاتجاهين، فبينما كانت المصالح الغربية تمد جذورها عبر العالم، كان على أوروبا نفسها أن تتغير. وبدءًا من أواخر القرن التاسع عشر، لعبت التحديات والفرص الفريدة المنبثقة من آسيا دورًا متزايدًا في تحويل التجارة الأوروبية الخاصة إلى أول نظام عالمي حقيقي.
في عام ١٨٩٤، اشتعلت الحرب بين الصين واليابان، وقد جذب الصراع انتباه العالم، وسجَّل المرة الأولى التي تتدخل فيها أوروبا مباشرةً في صراع بين دولتين سياديتين تقعان على مسافة بعيدة عن شواطئها. وبغض الطرف عما شعرت به القوى الأوروبية إزاء أي من طرفي الحرب، فقد كانت لهذه القوى مصالح قوية في الاستقرار الإقليمي في آسيا، قائمة على حرية الوصول إلى الصين. ولم يكن من الممكن أن تُترَك الصين — التي كانت أضعف من أن تصد أي اعتداء أجنبي وأكبر من أن تُقَسَّم — لتقع تحت سيطرة أي قوة منفردة. وعندما سعت اليابان المنتصرة إلى الاستئثار باستئجار شبه جزيرة لياودونج التابعة للصين كجزء من معاهدة شيمونوسيكي عام ١٨٩٥، شعرت كلٌّ من روسيا وألمانيا وفرنسا أن مصالحها مهددة بما يكفي لمطالبة اليابان بالتراجع. وتلاشت الأزمة، لكن الاستقرار لم يعد أبدًا؛ ففي تتابع سريع للأحداث، عانت الصين من حربين أخريين: قمْعِ تحالف الدول الثمانية لثورة الملاكمين في عام ١٩٠٠، ومعركةِ الحسم بين روسيا واليابان بين عامي ١٩٠٤-١٩٠٥ التي دارت أغلبها على أراضٍ صينية.
وعندما اتضحت الرؤية، لم يكن من الممكن تمييز معالم شمال شرق آسيا؛ فقد دخلت الصين ذاك العقد عملاقًا متثاقل الخطى، وخرجت منه وليس لها وجود على الخريطة السياسية. وتحطمت مخططات روسيا في الشرق؛ أما اليابان — على الرغم من آثار الحرب الدامية عليها — فباتت آنذاك تُعرف بأنها صاحبة القوة العليا في المنطقة. ومع إدراكها للواقع الجديد، تخلت كلٌّ من القوى الكبرى عن ادعاء إجماع الآراء، وتقدمت الواحدة تلو الأخرى لعقد صفقات خاصة مع طوكيو. وقد أقرت هذه «الاتفاقيات الآسيوية غير الرسمية» بسيطرة اليابان غير الرسمية على كوريا ومنشوريا في مقابل حصول تلك القوى الكبرى على امتيازات مماثلة في أماكن أخرى: بريطانيا في الهند، وفرنسا في الهند الصينية، والولايات المتحدة في الفلبين، وروسيا في منغوليا.
كانت بريطانيا على رأس الدول التي تضغط على اليابان للإبقاء على وحدة الصين على المستويين السياسي والإقليمي. وقد دخلت في تحالف مع اليابان في عام ١٩٠٢ في إطار مجابهة مخططات روسيا في منشوريا، ثم جددت التحالف بعد انتصار اليابان لحماية «المصالح المشتركة لكل القوى في الصين من خلال ضمان استقلال ووحدة الإمبراطورية الصينية». ومثل القوى الأخرى، أدركت بريطانيا أن الاستيلاء على أراضٍ في الصين لن يخدم مصالحها. وظلت أسرة تشينج الحاكمة في الصين شريكًا حيويًّا في التجارة والمعاملات الدبلوماسية، وفضَّلت معظم القوى الأخرى مساندة الحكومة التي تعرفها بدلًا من المخاطرة بانقسام متحيز مثير للخلاف. لكن من بين كل القوى الموجودة في الصين، كانت بريطانيا ستتكبد أفدح الخسائر من السقوط المحتمل للحكومة.
كانت المصالح الاستراتيجية لبريطانيا في الصين قليلة وغير هامة نسبيًّا؛ وقد كان شغلها الشاغل هو كيف تصل لأفضل وضع لها في المنطقة بحيث تستغل مزيجًا متغيرًا من الفرص التجارية. وعلى مدار القرن التاسع عشر، انتقلت المصالح البريطانية في شرق آسيا من مانشستر إلى لندن؛ بعبارة أخرى: من قطاع الصناعة إلى قطاع المال. كان هذا بمنزلة تغير هائل في الموقف في وقت مبكر من القرن، حين دخلت بريطانيا الحرب مرتين وليس مرة واحدة لإجبار الصين على فتح أسواقها. كانت بريطانيا لا تزال تملك أكبر أسواق التصدير في آسيا؛ وفي الوقت الذي نهضت فيه كل من اليابان والهند كمنتجين منافسين في صناعة النسيج، تحركت بريطانيا لاستغلال السوق الجديدة لماكينات المصانع. لكن المال الحقيقي، مع ذلك، كان يوجد في الخدمات المالية والائتمان. وفي وقت مبكر يعود إلى سبعينيات القرن التاسع عشر، تركت مجموعة جاردين ماثيسون تجارة الأفيون لتركز على الشحن والتأمين والأعمال المصرفية. ومع أنين الأحوال المالية المستقرة للصين تحت وطأة تكاليف الحرب، ومع وجود أعدائها في الداخل والخارج، كانت سعادة المستثمرين لا توصف وهم يحققون التوازن بشراء دَيْن الحكومة الصينية في سوق لندن. وبين عامي ١٨٧٤ و١٨٩٥، جمعت شركة هونج كونج وشنغهاي للخدمات المصرفية (التي تُعرف الآن باسم «إتش إس بي سي») ١٢ مليون جنيه استرليني لمصلحتها. وما بين عامي ١٨٩٦ و١٩٠٠، ارتفع هذا المبلغ إلى ٣٢ مليون جنيه استرليني.
سعت وزارة الخارجية البريطانية إلى حماية مصالح الخدمات المصرفية الخاصة في الصين، لكنها لم تكن تخدم المستثمرين بأي حال. ومثلما ساقت المؤسسات التجارية الكبرى بريطانيا إلى الدخول في حرب بسبب تجارة الأفيون ذات يوم، كانت السياسة إزاء آسيا متداخلة بعمق مع المصالح المالية. وأصبحت الهيمنة على الأحوال المالية محور التركيز الأساسي للسياسة الخارجية البريطانية في آسيا، وإحدى المصالح العديدة التي كان التنافس فيها مع اليابان والولايات المتحدة يهدد أشياء تتعدى الأرباح. لكن وزارة الخارجية ضغطت كذلك على شركة هونج كونج وشنغهاي لاستيعاب المنافسة من داخل الصين ومن أماكن أخرى في أوروبا، خاصةً بعد عام ١٨٩٥، حين بدأت سوق الائتمان في التسارع. وبالرغم من تمتع البنوك الأجنبية بحالة عدم الخضوع للولاية القضائية الإقليمية، أدركت تلك البنوك أهمية الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الحكومة الصينية.
أدت الزيادة المفاجئة لحركة التجارة بين الدول الآسيوية في القرن العشرين إلى اتساع سوق الخدمات البريطانية، على نحو منفصل تمامًا عن التجارة البريطانية المباشرة. وحتى بدون تراجع حركة التجارة الأوروبية خلال الحرب العالمية الأولى، كان المال الذي يمكن جمعه من تسهيل التجارة بين هونج كونج ويوكوهاما، وسنغافورا وبومباي يضاهي ذلك الذي كان يُجمَع من التجارة بين بريطانيا والغرب. في هذه الحالة أيضًا، ظلت الصين الجائزة الكبرى في كل شيء؛ فقد أغرق المستثمرون الأجانب سوق النقل البري الصيني بالأموال أملًا في اختراق قلب هذه السوق. وقد نصت الاتفاقيات التي أبرمتها كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا واليابان مع الصين على تصاريح حصرية بتشييد خط سكك حديدية في الداخل، إلى جانب حق تنمية الموارد على طول الخط. وقد راح القوميون الصينيون يطلقون على هذه الاتفاقيات المجحفة «اتفاقيات جائرة»، لكن المؤرخ الياباني واي تاك ماتسوزاكا يطلق على هذه الاتفاقيات اسمًا آخر، ألا وهو: إمبريالية السكك الحديدية.

حركة العمال

بدأ التوسع التجاري على المستويين الدولي وداخل آسيا في عصر لم يكن لإمكانية التنقل السكاني المرتفعة فيه أي سابقة. فمع توافر وسائل مواصلات أفضل، ونقل بحري أكثر أمنًا، وسوق عمل عالمية، أخذ الناس يتنقلون بحرية أكثر وأكثر من أي وقت مضى. ومثلما هو الحال مع تدفق السلع، تأرجح مركز جاذبية الهجرة بين شمال المحيط الأطلنطي والمحيط الهادي، وقد سجَّل المحيط الهادي حركة هجرة أوسع نطاقًا؛ فما بين عامي ١٨٤٦ و١٩٤٠، هاجر ما بين ٥٥ إلى ٥٨ مليون أوروبي إلى الأمريكتين. وفي تلك السنوات نفسها، انتقل ١٠٠ مليون شخص تقريبًا عبر آسيا، حيث قصد معظمهم وجهات في منشوريا وجنوب شرق القارة.
كان ظهور آسيا، فيما يُعرف الآن باسم سوق عمالة عالمية، ملموسًا في جميع أرجاء العالم. فما بين ثمانينيات القرن التاسع عشر وعشرينيات القرن العشرين، استغلت الحركات العمالية المزدهرة في أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا المخاوف من التهديد الذي تشكله العمالة الصينية الرخيصة، ودعمت سلسلة من الاعتصامات وفرض التعريفات وقيود الهجرة المناهضة للعمالة الصينية. كذلك تطلَّب تدفُّق المهاجرين من الحكومات أيضًا وضع إجراءات معيارية لتعامل كل حكومة مع مواطني الدولة الأخرى. ولم يكن ذلك يمثل مشكلة في سياق العولمة الإمبريالية؛ فالجزء الأغلب من موجة هجرة الهنود الهائلة في القرن التاسع عشر اتجه إلى مالايا وكينيا وجنوب أفريقيا، ومن ثم، فقد ظل هؤلاء المهاجرون في حدود الحكم البريطاني. من ناحية أخرى، وكما يوضح مؤرخ الصين العصري آدم ميكيون على نحو موفق، فإن التدفق العالمي للمهاجرين من شرق آسيا، وبخاصة من الصين، هو ما دفع الحكومات إلى اتخاذ جواز السفر الحديث كنظام معياري.
يمكننا إضافة توضيح مماثل عن الجزء الآخر من إجراءات عبور الحدود والمعروف الآن بالحَجْر الصحي. ففي موانئ محددة في أوروبا — خاصةً تلك الواقعة على طول البحر المتوسط — كانت ثمة ممارسات راسخة لفحص السفن القادمة. لكن حتى عام ١٨٥٠، لم تكن ثمة إجراءات معيارية لفحص الحالة الصحية للأشخاص الذين يعبرون الحدود الوطنية، ولم يكن ثمة حاجة ملحة لوضع إجراء كهذا. وحتى مع أخذ حالة الدمار التي سببها مَرَضَيِ التيفوس والجدري في الاعتبار، لم تواجه أوروبا حالة وباء كبرى عابرة للقارات لقرون.

قدوم الكوليرا

تغيَّر كلُّ ذلك حينما انتشرت الكوليرا — التي وصلت منطقة الأورال في روسيا عام ١٨٢٩ — في القارة الأوروبية مثل النار في الهشيم. وبحلول عام ١٨٣١، وصل المرض إلى باريس وأهلك ١٢٧٣٣ شخصًا في تلك المدينة وحدها خلال عام. وقد تسبب خُبث مرض الكوليرا الشديد وانتشاره بالغ السرعة في بث الفزع في الأوساط الطبية، ودفع السلطات الفرنسية إلى عقد سلسلة المؤتمرات الصحية الدولية. وكان أول مؤتمرَيْن — عُقدا في عامي ١٨٥١ و١٨٥٩ — يهدفان إلى تحديد سبب المرض والتدابير المضادة التي يمكن اتخاذها إزاءه، وقد كان المؤتمران استثنائيين بسبب عدم إثمارهما عن أي نتائج حاسمة. فإضافةً إلى الافتقار إلى المعرفة بعلم الأوبئة، أعاق اختلاف المصالح السياسية أي شكل من أشكال الإجماع. وتجاهلت وفود البلاد البحرية اقتراح فرض حجر صحي روتيني على السفن التي تصل إلى الموانئ، ليس لأن ذلك كان باهظ التكلفة، ولكن لأنهم استشعروا أن هذا الإجراء غير سليم من الناحية العلمية؛ أو، على الأقل، هذا ما قيل حينها. وبالرغم من أن بريطانيا لم تكن استثناءً فيما يتعلق بهذا الأمر، سريعًا ما أدرك المراقبون الخارجيون حدوث «توافق مذهل بين مصالح إنجلترا التجارية وقناعاتها العلمية». 
«الكوليرا في أعلى صاري السفينة»، صورة بيد إف فريتس جريتس تُظهر المرض مجسدًا في صورة مهاجر تركي.  
أما المؤتمر الثالث — الذي عُقد عام ١٨٦٦ — فقد كان مثمرًا على نحو فاق الأوَّلين بكثير. كان السبب الذي دفع إلى انعقاد المؤتمر — في إسطنبول — هو التفشي الهائل للمرض في مصر، إذ كان يحمله الحجاج المسلمون — الذين كانوا يفدون في أعداد غير مسبوقة عبر قناة السويس المفتتحة حديثًا آنذاك — وهم في طريقهم إلى مكة. لم يتوقف تمامًا تدخل السياسة في العلم؛ حيث رفضت وفود من بلاد فارس والإمبراطورية العثمانية حرفيًّا اتهامهما بتوطن المرض في أراضيهما، في حين استمرت بريطانيا في رفض ادعاء أن المرض متوطن في الهند «بحماسة شديدة أشبه بالتعصب الديني». ومع ذلك، رجحت كفة الميزان لمصلحة خطورة الموقف، واقترح مؤتمر إسطنبول أول سلسلة من إجراءات السيطرة العملية على المرض، بما في ذلك إنشاء منشأة حجر صحي في مدخل البحر الأحمر، مما تطلب مستوى غير مسبوق من التعاون بين القوى الأوروبية.
على الرغم من أن الشراكة الجديدة هذه التي عمت أوروبا كانت مدفوعة بالشعور بالخوف من المرض الآخذ في الانتشار قادمًا من آسيا، فقد كان بناء الجيل التالي لبنية تحتية للوقاية من الوباء في آسيا هو ما جسد صورة حقيقية لعولمة الصحة العامة. وقد تحقق هذا الأمر بفضل تغيُّرين كبيرين: فقد أدت الثورة الباستورية إلى تحول في الفهم العلمي لأصل المرض والوقاية منه، في حين أن اتساع حركتي التجارة والهجرة بين الدول الآسيوية وضع الجميع على محك الإصابة بالأوبئة بعيدًا عن حدود أوطانهم. وبغض الطرف عن العَلَم الذي يرفرف فوق أرض شنغهاي أو سنغافورا، فهاتان المدينتان الساحليتان كانتا ملكًا للعالم بمقتضى حقيقة أن كل شخص تقريبًا كان مهتمًّا بضمان تدفق حركة التجارة عبرهما بسلاسة. وحين ضرب الطاعون هونج كونج — المركز التجاري الآسيوي العظيم — في عام ١٨٩٤، هبَّت السلطات الاستعمارية لاتخاذ الإجراءات اللازمة، حيث أسست مناطق حجر صحي، ووزعت الدواء والمطهرات، وعبأت كلًّا من الإمكانات البريطانية والصينية للعناية بالمنكوبين البؤساء.
ولم تكن بريطانيا والصين وحدهما في ذلك؛ إذ أثارت الأزمة التي ضربت مدينة دولية رد فعل عالمي، حيث كان علماء الأوبئة من أوروبا والولايات المتحدة واليابان يتسابقون ليكونوا الأوائل في عزل البكتيريا العصوية. وعلى الرغم من أن كلا الفريقين الأوروبي والياباني قد حققا الاكتشاف كلٌّ على حدة، كان عالم البكتيريا السويسري ألكسندر يرسين (١٨٦٣–١٩٤٣) هو من فاز في النهاية بأحقية إطلاق اسمه على بكتيريا الطاعون التي تعرف الآن ﺑ «اليرسينية الطاعونية». حين ضرب المرض نفسه مدينة هاربين المزدهرة بمنشوريا في عام ١٩١٠، عقدت حكومة تشينج مؤتمرًا دوليًّا للخبراء للوصول إلى حل، وأدركت الصين مدى الخطر المحدق بها. لقد أتى الطاعون مهرولًا في أعقاب الحرب بين روسيا واليابان، وكان متمركزًا على طول السكة الحديدية، قلب المصالح الأجنبية في المنطقة. وكان على الصين أن تجري محاولة ما للسيطرة على تفشي المرض، فعدم اتخاذ أي إجراء قد يعتبر تخليًا عن سيادتها. وأظهرت الاستجابة لمرض الطاعون في آسيا قناعة جديدة بأن مسببات الأمراض أو المصلحة القومية لم تتوقف عند الحدود القومية، فقد بات المرض في أي مكان آخر مشكلة يتحمل أعباءها الجميع.

أديان متنافسة

كان الدين هو الركيزة الأخيرة للمصلحة الأوروبية في آسيا؛ فقد بدأ المبشرون المسيحيون القيام برحلاتهم إلى هناك بأعداد متزايدة منذ القرن السادس عشر، تقريبًا بمجرد أن سمح لهم افتتاح الممر البحري الواقع قرب جنوب أفريقيا بالقيام بذلك دون المرور بأراضي المسلمين. وكانت الموجة الأولى تتألف من اليسوعيين، الذين أقاموا في منطقة جوا ومنها انطلقوا إلى ملاكا واليابان، كل ذلك وأعينهم على الجائزة الكبرى: الصين. وأُعجب اليسوعيون بالأراضي التي زاروها، ووضعوا استراتيجية لشرح الديانة المسيحية، ليس فقط باللغات المحلية، وإنما عبر رموز ومصطلحات المعتقدات المحلية. وقد قربتهم هذه الاستراتيجية التوافقية إلى صفوة الآسيويين، الذين اعتبروا القساوسة الذين كانوا على درجة عالية من العلم بمنزلة أقرانهم، لكنها وضعتهم في صراع مع بقية أبناء دينهم. أما الطوائف الأخرى — التي وصلت إلى آسيا عقب تجارب شديدة الاختلاف في أفريقيا والأمريكتين — فقد كانت أقل توافقًا إلى حد بعيد مع المعتقدات المحلية الآسيوية. وقد زعمت أن المنهج اليسوعي قد جاور الوثنية، مؤكدة أن الديانة الكاثوليكية ينبغي ألا تنفصل عن اللغة أو الرداء أو الحضارة الأوروبية.
بعد قرنين من الزمان، كانت موجة جديدة من المبشرين البروتستانت في آسيا تواجه السؤال ذاته: ما الذي جاءوا ليعظوا به بالضبط؟ ففي حين كان يشعر يسوعيو القرن السادس عشر بالإجلال للآسيويين العظام على المستويين المادي والثقافي، كان مبشرو القرن التاسع عشر مقتنعين بعبء مدنيَّة القارة الآسيوية الذي يقع على عاتق الرجل الأبيض، حتى إن أشخاصًا مثل جيمس هدسون تايلور (١٨٣٢–١٩٠٥) — الذي علَّم أعضاء بعثته التبشيرية الداخلية في الصين كيف يرتدون ملابسهم ويتحدثون ويعيشون مثل الصينيين — أدركوا كذلك أن أحد أفضل الطرق لجذب المحتمل هدايتهم للبعثة هو إغراؤهم بالتعليم والطب الغربيين.
وفي جميع أنحاء العالم، حتى المجتمعات المسيحية الراسخة ظلت تحت رعاية المبشرين، الذين كانوا ينزعون إلى النظر إلى المسيحيين من السكان الأصليين باعتبارهم حديثي الهداية إلى الديانة المسيحية وليس باعتبارهم أكفاء لهم في العقيدة. وقد نتوقف قليلًا هنا قبل أن نطلق الأحكام القاسية على المبشرين: فبالنظر إلى العالم من قمة النفوذ الغربي، رأت الوفود المدعوة في المؤتمر التبشيري العالمي بإدنبرة عام ١٩١٠ التقدم العدواني للبروتستانتية الأنجلو-أمريكية (إذ لم تكن البعثات الكاثوليكية مدعوة) على أنه قوة لا تقاوم، وتصوروا نور الإنجيل يشع إلى كل ركن من كوكب الأرض. أما النفر القليل من المسيحيين الآسيويين الحاضرين المؤتمر فرأوا الأمور على نحو مختلف بوضوح. فمثلهم مثل اليسوعيين قبل قرنين من الزمان، دافع هؤلاء المسيحيون الآسيويون وحلفاؤهم عن مواءمة الرسالة المسيحية للقيم الروحانية الأصلية، خاصة فيما يتعلق بالأديان الآسيوية العريقة: البوذية والهندوسية والإسلام. وبعد جدل طويل، خلص المؤتمر إلى أن عقد مثل هذه المقارنات من شأنه المخاطرة بتضييق نطاق التفرد الذي تتمتع به الديانة المسيحية، وبدلًا من التوافق، دفع المؤتمر المبشرين الميدانيين إلى عقد «أكثر المقارنات صراحةً» مع الأديان الأصلية.
وما إن عُقِد مؤتمر التبشير الكبير الثاني في القدس في عام ١٩٢٨، حتى تغيرت الأمور. فالحرب العالمية الأولى وصعود الاتحاد السوفييتي أضعف ثقة الجيل السابق في حضارة الغرب «المتفوقة»، وأضعف قوة التبشير بالمسيحية في جميع أرجاء الأرض. أصبح المسيحيون الآسيويون أنفسهم أعلى صوتًا وأكثر نشاطًا. رفض المسيحيون اليابانيون — على قلة عددهم — أي إشارة إلى أنهم مواطنون من الدرجة الثانية رفضًا تامًّا. وكان قد لحق بهم جيل جديد من المسيحيين الصينيين واسعي المعرفة، مثل سونج ماي لنج (١٨٩٧–٢٠٠٣)، التي تلقت تعليمًا أمريكيًّا، وهي زوجة تشيانج كاي شيك (١٨٨٧–١٩٧٥). والأهم هو أن تلك المجتمعات كابدت أحداثًا مثل ثورة الملاكمين في الصين وحركة الاستقلال في كوريا عام ١٩١٩، وكلا الحدثين أوقع بالمسيحيين أحداث عنفٍ متباينة، ولكنهم خرجوا منها بإيمان سليم لم يمسسه سوء. ولم يعد من الممكن تسميتهم مسيحيين تحت التدريب، ورفضوا أن يجري التعامل معهم على هذا الأساس بعد ذلك. وفي الوقت الذي كانت الوفود في إدنبرة تتطرق فيه على استحياء لموضوع الكيفية التي سيُقبَل بها المسيحيون الآسيويون في النهاية كأكفاء في العقيدة من طرف المجتمع التبشيري، كانت الوفود في القدس مباشرة بدرجة أكبر، إذ طالبت بجدول زمني محدد للوقت الذي ستنتقل فيه الكنائس المحلية للسيطرة الآسيوية الكاملة.
جعل الموقف السياسي المتدهور في ثلاثينيات القرن العشرين القضية أكثر إلحاحًا؛ فقد باتت الأيام التي يستطيع فيها الأوروبيون حماية بعثاتهم التبشيرية بدبلوماسية السفن الحربية ذكرى بعيدة. وقد أخذت اليابان تزداد عدوانية في منشوريا والصين، وأصبحت عدائيتها تجاه القوى الأوروبية في آسيا — بخاصة بريطانيا العظمى — تزداد علنًا. وقد وضع هذا الموقف المبشرين في المناطق اليابانية أمام قرار صعب؛ أينبغي عليهم محاولة تهدئة شكوك اليابانيين بالتخلي عن السلطة لمسيحيين من السكان الأصليين، أم ينبغي عليهم تأخير الرحيل ومحاولة استخدام البعثة التبشيرية كغطاء سياسي؟ اختار البروتستانت الأنجلو-أمريكيون في كوريا ومنشوريا الخيار الثاني، وهو القرار الذي أدى في النهاية إلى مواجهة صريحة في عام ١٩٣٧، حينما استبدلت السلطات المبشرين بالإكراه وجعلت مسيحيين يابانيين يحلون محلهم.
كان الموقف الكاثوليكي أكثر تعقيدًا؛ فقد كانت بعثات باريس الأجنبية الفرنسية أكبر البعثات التبشيرية الكاثوليكية في شرق آسيا، وكان لها تاريخ طويل في اليابان، وكانت تتمتع برؤية أكثر تعاطفًا للبلد باعتباره قوة حضرية. وكان جيل سابق من قساوسة بعثات باريس الأجنبية قد وصلوا بالفعل إلى أوضاع توافقية في اليابان في وقت حربها مع الصين وروسيا. وراح الكاثوليكيون اليابانيون يدعمون أمتهم بحماس في فرصة لإظهار ولائهم. وأخذ القساوسة يباركون سفن الجند وهي تغادر أحواض السفن ويثنون على شجاعة الجنود الكاثوليكيين الوطنية مثل الملازم الجريح الذي راح يصيح وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: «قلبي مع الرب وجسدي مع الإمبراطور!»
وقد تسبب احتلال اليابان لمنشوريا — التي أُعيدت تسميتها بمانشوكو في وقت مبكر من العام اللاحق — عام ١٩٣١ في تقويض علاقاتها بالقوى الأنجلو-أمريكية. وحتى بعدما أدانت عصبة الأمم مانشوكو بأنها دولة عميلة لليابان، استمر قساوسة بعثات باريس الأجنبية — مثل كاهن الرسولية أوجست جسبيه (١٨٨٤–١٩٥٢) — في الضغط على الفاتيكان المتمنعة لإقامة علاقات ودية مع تلك الدولة. ومثل هذا الطلب كان مثيرًا للدهشة للغاية؛ لأنه جاء من البعثات الفرنسية، التي أخذت لعقود تثبط محاولات روما لتأسيس وضع دبلوماسي في اليابان والصين من خلال طلب وصاية فرنسية على الكنيسة في الصين.
كانت الحرب مع الحلفاء هي التي فرضت الحل أخيرًا. فمع وجود مئات الآلاف من المسيحيين الكاثوليكيين الذين يعيشون تحت الحكم الياباني في الصين وكوريا، ومع التنبؤ بالأعداد نفسها في الهند الصينية والفلبين، تخلى الكرسي الرسولي عن تردده الذي استمر عقودًا وأقام علاقات مع اليابان في عام ١٩٤٢. وكانت هذه الحركة — التي استقبلتها بريطانيا والولايات المتحدة بتخوف واضح — تتسق بشدة مع موقف الفاتيكان الراسخ المحايد فيما يتعلق بالصراع بين الدول؛ المبدأ الذي أعادت الفاتيكان التأكيد عليه بعد شهر حين أقامت علاقات مع حكومة تشيانج كاي شيك القومية في بكين؛ وسط اعتراضات يابانية قوية هذه المرة.

أهمية الثقافة

يعتمد قدر كبير من المناقشات الحالية حول الكيفية التي ستشكل بها آسيا القرن القادم على الثقافة؛ فإننا نرى بالفعل تعبيرًا واثقًا وقويًّا عن أفكار سياسية واجتماعية بديلة تنبثق من آسيا، ويمكننا بلا شك انتظار رؤية المزيد في المستقبل. وقد كان تأريخ الإمبريالية في آسيا يدور في جزء كبير منه في فلك الصدام الثقافي: أي الأفكار التي تقف وراء المقاومة، والأفكار المتوالية حول الحداثة، والأفواه التي كانت تُكمم.
إن وجهات النظر الثقافية مهمة، لكنها وحدها تُعد تشتيتًا عن القضية الأساسية إلى حد ما. وبغض النظر عن كيفية نظر آسيا والغرب لبعضهما البعض من الناحية الثقافية، بقيت حقيقة أن كِلا الطرفين كان عاجزًا عن قطع علاقته بالآخر. وهذا هو السبب وراء كون الحديث عن «القرن الآسيوي» القادم مضَلِّلًا جدًّا. لقد كان العالم أكثر ترابطًا بطرق عدة في عام ١٩١٠ مما كان عليه في عام ١٩٧٠. وفي بعض الأحيان، وليس دائمًا، كانت المصالح الغربية تجتاز العالم كله تحت غطاء من المصالح الإمبراطورية الغربية، جالبةً الثروة والمعرفة والهيبة للأوطان، لكنها كذلك كانت تجعل من نفسها عرضة لنفس تقلبات الأسواق والسياسة التي نشهدها اليوم. وسواءٌ أكنا نتحدث عن الدبلوماسية أم الأحوال المالية أم العلوم أم الدين، فإن مسار القرن العشرين في بداياته لم يكن متمثلًا في فرض مجموعة من الإمبرياليين الأوروبيين لإرادتهم وسننهم على العالم بحالة من اللامبالاة، وإنما تمثَّل في قيام مجموعة من المؤسسات الذكية، على ضعفها، بتكييف نفسها مع التهديدات والوعود والفرص التي يتيحها عالم سريع التغير. وقد كانت آسيا جزءًا من هذا العالم قدر ما هي جزء من عالمنا اليوم. 

Géographie General