الحروب والاضطرابات وانهيار العديد من الإمبراطوريات العظيمة، غالبًا ما يسبقها حدوث
تغيرات في الظروف المناخية المحلية. أتراها أكثر من مجرد مصادفة؟
مايكل مارشال ترجمة إيمان أحمد عزب
مايكل مارشال ترجمة إيمان أحمد عزب
قصر مايسيني اليوم. الإمبراطوريات كافة تنهار، لكن ما السبب؟ |
في عام 1200 قبل الميلاد، اختطف باريس أمير طروادة هيلين، أجمل امرأة في العالم، وخرج أسطول
إغريقي يفوق عدده ألف سفينة لملاحقته. وبعد حرب استمرت طويلًا، قاد أبطال مثل أخيل الإغريق إلى
إلحاق الهزيمة بطروادة.
على الأقل، هذه هي القصة التي حكاها الشاعر هوميروس بعد حوالي أربعة قرون من الحرب. لم يكن
هوميروس يكتب فقط عن أحداث وقعت قبل زمانه بكثير، ولكنه كان يصف أيضًا حضارة اندثرت منذ زمن
بعيد. كان أخيل وأبناء بلدته جزءًا من الحضارة الإغريقية القديمة، وهي ثقافة عظيمة قوامها الحرب
ازدهرت منذ حوالي عام 1600 قبل الميلاد وتركزت في مدينة مايسيني.
وبحلول عام 1100 قبل الميلاد، أي بعد حرب طروادة بقليل، تعرضت العديد من مدن هذه الحضارة
ومستعمراتها إما للتدمير أو للهجر، وعاد الناجون من أهلها إلى أسلوب حياة ريفي أكثر بساطة.
توقفت التجارة تمامًا، واختفت المهارات ومنها مهارة الكتابة. والأبجدية التي استخدمها أهالي
مايسيني، والمعروفة بأبجدية «ب» الخطّية، لم تُقرأ مرة أخرى إلا في عام 1952.
أخذت هذه المنطقة تتعافى ببطء بعد حوالي عام 800 قبل الميلاد، إذ استخدم الإغريق الأبجدية
الفينيقية، وصعدت المدينتان الدولتان أثينا واسبرطة إلى السلطة. يقول براندون دريك، الباحث بعلم
الإنسانيات: «كان الانهيار من أهم الأحداث التاريخية، إذ إنه أعطى الفرصة لميلاد ثقافتين
عظيمتين، مثلما يحترق طائر العنقاء ليخرج من بين رماد جسده طائر جديد.» لقد فاقت اليونان
الكلاسيكية، وذلك هو الاسم الذي عُرفت به الفترة الثانية من الحضارة الإغريقية، سابقتها بهاءً
وروعة. ومع أن عصور مجدها لم تمتد إلا لقرنين من الزمان، فإن أفكار أبنائها كان لها تأثير عميق،
فتراثهم لا يزال حولنا في كل مكان بدءًا من الرياضيات التي نتعلمها في المدرسة ووصولًا إلى فكرة
الديمقراطية.
ولكن ما الذي أدى إلى سقوط اليونان المايسينية، ومن ثم كان له أثر عظيم على مجرى تاريخ
العالم؟ وفقًا لأحدث الأدلة، انهارت هذه الحضارة بسبب حدوث تغير في الظروف المناخية، والأكثر من
ذلك أن هذه الأدلة تشير إلى أن اليونان المايسينية ليست إلا واحدة من قائمة متزايدة من الحضارات
التي يرتبط مصيرها بتقلبات المناخ. على ما يبدو فإن التحولات الكبرى في الظروف المناخية التي لم
يحسن أصحابها التعامل معها قد أدت إلى سقوط مجتمعات بأكملها، ونتج عن التغيرات الأقل حجمًا حروب
واضطرابات.
ظهرت الفكرة التي تقول إن تغير المناخ أسقط حضارات بكاملها منذ أكثر من قرن تقريبًا، ولكنها
لم تكتسب أساسًا صلبًا إلا في تسعينيات القرن الماضي عندما بدأ الباحثون يفهمون بالضبط الكيفية
التي تغير بها المناخ مستخدمين الدلائل المدفونة في أعماق البحيرات أو تلك المتحجرة في رواسب
الكهوف الكلسية. تعد الدراسات التي أجراها هارفي فايس، الباحث بجامعة ييل عن انهيار واحدة من
أوائل الإمبراطوريات — وهي الإمبراطورية الأكّدية — هي الخطوة الأولى في هذا الطريق.
في حزام من الأراضي الزراعية الخصبة بمنطقة الهلال الخصيب بالشرق الأوسط كانت البداية حيث
تطورت على مر القرون حضارة محلية. في عام 2334 قبل الميلاد وُلد سرجون بمدينة أكاد، وبدأ حياته
بستانيًّا مسئولًا عن تنظيف قنوات الري ثم استحوذ على السلطة. ولكنه لم يكتف بما وصل إليه، فغزا
العديد من المدن المجاورة وضمها إلى ملكه. وبقيت الإمبراطورية التي أسسها سرجون مزدهرة نحو قرن
من الزمان بعد وفاته حتى انهارت.
بالحفر والتنقيب في الأرض المعروفة اليوم بأرض سوريا، عثر فايس على رواسب ترابية تشير إلى أن
درجة الجفاف بالمناخ زادت فجأة عام 2200 قبل الميلاد تقريبًا. يعتقد فايس أن يكون الجفاف قد أدى
إلى مجاعة ولذا هجر الناس المدن الكبيرة في ذلك الوقت (مجلة ساينس، مجلد 261، صفحة 995). وفي
إحدى الكتابات المعاصرة وعنوانها «لعنة أكاد» نجد بالفعل وصفًا لمجاعة كبيرة:
للمرة الأولى منذ أن أُنشئت المدن وشُيدت
تخلو الأراضي الزراعية الواسعة من الحبوب
وتخلو الأنهار من الأسماك
لم تعد البساتين التي ترويها المياه تنتج الشراب أو الخمر
ولم تعد السحب المتجمعة في السماء تمطر، ولم يعد الماسجيورم ينمو
في ذلك الوقت كان الشيكل لا يأتي لك إلا بنصف كوارت من الزيت
أو نصف كوارت من الحبوب
كان ذلك هو الثمن الذي تباع به تلك البضائع في أسواق كل المدن
كان من ينام على سطح البيت يموت فوقه
ومن ينام داخل البيت لا يجد قبرًا يُدفن فيه
كان الناس يضربون بأيديهم على بطونهم من شدة الجوع
كان للعمل الذي قام به فايس تأثيره، ولكن لم يكن هناك الكثير من الأدلة عليه. في عام 2000
توصل بيتر ديمينوكال، الباحث بعلم المناخ بجامعة كولومبيا في نيويورك، إلى المزيد. فقد بين
فريقه، بناءً على سجلات حديثة، يرجع تاريخها إلى عام 1700، أن تدفق النهرين العظيمين الموجودين
بهذه المنطقة، وهما دجلة والفرات، يرتبط بالأحوال في شمال الأطلسي: المياه الأكثر برودة تقلل من
سقوط الأمطار عن طريق تغيير مسارات الأنظمة الجوية. وبعدها اكتشف الفريق أن درجة حرارة مياه
الأطلسي انخفضت قبل انهيار الإمبراطورية الأكادية (مجلة ساينس، مجلد 288، صفحة 2198). وقد أثار
ظهور هذه الإشارة ذات الدلالة المهمة في نفس توقيت انهيار الإمبراطورية الأكادية دهشة أعضاء
الفريق.
سرعان ما أصبح واضحًا أن التغيرات المناخية الكبرى تزامنت مع النهايات غير المتوقعة للعديد من
الحضارات الأخرى. (انظر الخريطة)
ومن بين تلك الحضارات، تمثل حضارة المايا واحدة من الحضارات التي يمثل سقوطها
النموذج الأمثل لانهيار الحضارات بسبب تدهور المناخ. ظهر شعب المايا في المكسيك وأمريكا الوسطى
في عام 2000 قبل الميلاد تقريبًا. أنتج المزارعون في هذه الحضارة محاصيل الذرة والنباتات
القرعية والفول، وكانت هذه هي الحضارة الأمريكية الوحيدة التي امتلك شعبها لغة مكتوبة. استمرت
حضارة المايا آلاف الأعوام وبلغت أوجها في الفترة ما بين عام 250 و800 ميلادية، إذ شهدت هذه
الفترة بناء المدن والأهرامات المدرجة.
ثم انهارت حضارة المايا وابتلعت الغابات العديد من الأبنية العظيمة التي خلفتها هذه الحضارة،
ولكن لم يُفقد كل شيء، فالعديد من أبناء المايا وآثار ثقافتهم لا يزالون يحيون حتى يومنا
هذا.
أشارت العديد من الدراسات إلى حدوث فترات طويلة من الجفاف قبيل انهيار حضارة المايا. وفي عام 2003، اكتشف جيرالد هوج، الباحث بالمعهد السويسري الفيدرالي للتكنولوجيا، ما هو أسوأ، إذ قدم
هوج وصفًا افتراضيًّا سنويًّا للأحداث معتمدًا على الترسبات الموجودة بقيعان البحيرات. بين هذا
الوصف أن الفترة ما بين عامي 551 و750 شهدت سقوطًا غزيرًا للأمطار، مما يمكن أن يكون تسبب في
زيادة أعداد السكان، ومن ثم بلغ بناء الآثار ذروته في عام 721 تقريبًا. ولكن القرن الذي تلا هذه
الفترة لم يشهد فترات جفاف شديد استمرت كل منها سنوات فحسب، بل شهد أيضًا كمية أمطار أقل من
المعدل الطبيعي في الفترات التي تخللت الجفاف (مجلة ساينس، مجلد 299، صفحة 1731). توقف بناء
الآثار خلال فترة الجفاف الطويلة تلك في عام 830 تقريبًا، ومع ذلك استمر عدد قليل من المدن في
تشييد الآثار قرونًا عديدة.
على الرغم من ازدياد حجم الأدلة العلمية، فهناك رد فعل مضاد لفكرة أن تغير الظروف المناخية قد
حدد مصير الحضارات. يقول ديمينوكال: «العديد من علماء الآثار يعزفون بحقّ عن تقبل فكرة أن
للمناخ دورًا في التاريخ الإنساني.»
يرجع جزء كبير من هذا العزوف إلى أسباب تاريخية؛ فقد ذهب علماء الأنثروبولوجيا في القرنين
الثامن عشر والتاسع عشر إلى أن الظروف البيئية للمجتمعات هي التي تشكل شخصياتها، وتعرف هذه
الفكرة بالحتمية البيئية، إذ افترض هؤلاء العلماء أن مناخ المنطقة الاستوائية الدافئ الذي يسهل
التنبؤ بظروفه قد نمّى صفة الكسل عند سكان هذه المناطق، في حين أسفر المناخ الأوروبي البارد عن
تنمية ذكاء السكان وتقوية عقيدة العمل لديهم، وغالبًا ما كانت هذه الأفكار تستخدم لتبرير
العنصرية والاستغلال.
بالطبع يقاوم علماء الأنثروبولوجيا في العصر الحديث أي أفكار تتشابه مع فكرة الحتمية البيئية.
يعمل أولف بونتجن باحثًا بالمعهد السويسري الفيدرالي للتكنولوجيا وتشير أبحاثه إلى أن تراجع
الإمبراطورية الرومانية الغربية ارتبط بحدوث تغيرات جوية كبرى خلال إحدى الفترات. يقول بونتجن:
«إن الموضوع حساس للغاية، فذلك المجال يتكشف ببطء شديد لأن العاملين فيه يخشون من التصريح
بأفكارهم بجرأة ووضوح.»
ولكن ديمينوكال يرى أن هذه المقاومة ليس لها مبرر، فلا يدعي أي شخص في يومنا هذا أن المناخ
يشكل شخصيات البشر، ولكنه يتحكم فقط فيما هو ممكن. فعندما تسوء الظروف المناخية، تقل كمية
الطعام الذي يمكن إنتاجه، وقد تتسبب التغيرات المناخية أيضًا في إصابة المحاصيل بآفات ناتجة عن
الجراد أو غيره من الحشرات، أو بانتشار الأوبئة بين الأشخاص الذين أضعفهم الجوع. وعندما تتعذر
المحافظة على معدل معين للسكان وأسلوب معين للعيش يمكن أن يؤدي ذلك إلى انهيار المجتمعات. يقول
براندون دريك الباحث بجامعة نيومكسيكو في مدينة ألباكيركي: «المناخ ليس عاملًا حاسمًا، إنما
عامل مهم، يمنح القدرة على عمل شيء ما أو يمنع حدوث هذا الشيء.»
ينظر البعض إلى هذه الفكرة باعتبارها مبسطة أكثر من اللازم. استخلص كارل بوتزر بجامعة تكساس
في أوستن من دراسته عن انهيار الحضارات أن الدور الذي لعبه المناخ ضُخِّمَ أكثر من اللازم، فهو
يرى أن ما يحدد مصير المجتمعات هو طريقة تعاملها مع الأزمات، فالأشياء تتداعي نتيجة للفشل
المؤسسي على حد قوله. ويشير إلى أنه فيما يتعلق بالحضارة الأكادية مثلًا، لا تدعم السجلات كافة
فكرة حدوث جفاف هائل.
ولكن الأدلة العلمية الخاصة بانهيار حضارة المايا قوية؛ ففي أوائل هذا العام استخدم إيلكو
رولينج، الباحث بجامعة ساوثهامبتون في بريطانيا، الترسبات الموجودة بقيعان البحيرات والنسب
التناظرية الموجودة بالرواسب الكلسية في سقوف الكهوف لكي يحلل التغير الذي طرأ على هطول
الأمطار، وتوصل إلى أن نسبة هطول الأمطار السنوية انخفضت بواقع 40% خلال فترة الجفاف الطويلة
مما أدى إلى تجفيف منابع المياه السطحية (مجلة ساينس، مجلد 335، صفحة 956). يرى رولينج أن هذا
الانخفاض قد أثر بشدة على شعب المايا لأن المياه الجوفية كانت بعيدة عن سطح الأرض ولم يكن
بمقدورهم الوصول إليها.
إذن بعد قرن من الزمان تمتع فيه شعب المايا بأمطار وفيرة، وجدوا أنفسهم فجأة أمام أزمة نقص
ماء الأمطار التي استمرت قرنًا آخر. لا توجد لدينا معلومات واضحة عن الطرق التي استخدمها شعب
المايا لتجنب المجاعات وانخفاض معدل السكان في هذه الظروف. فحتى في يومنا هذا لا تزال قدرتنا
على تحدي الظروف المناخية الصعبة محدودة. لقد استطاعت المملكة العربية السعودية أن تحقق اكتفاءً
ذاتيًّا من محصول القمح عن طريق استغلال احتياطي المياه الموجود في أعماق صحاريها وإمداد
المزارعين بالدعم، ولكنها الآن تراجعت عن تشجيع زراعة القمح لكي تحافظ على ما تبقى لديها من
مياه. أما في المناطق الجافة التي تتوافر فيها مياه الري، فيشكل تراكم الأملاح في التربة مشكلة
خطيرة، مثلما كان الحال تمامًا في الحضارات القديمة. فإذا كانت الظروف المناخية في العصر الحديث
لا تزال تتحكم في المزارعين بالرغم مما نمتلكه من معرفة وتكنولوجيا، فما بالنا بالمزارعين
القدامى؟
العصور الإغريقية المظلمة
مع أن الكثير من علماء الآثار لا يزالون غير مقتنعين بدور المناخ في انهيار الحضارات، فكل يوم تُضاف نماذج جديدة تدلل على هذه الفكرة، وآخر هذه النماذج كان الشعب المايسيني. أثار سبب انهيار هذا الشعب الكثير من الجدل، وأشار أحد التفسيرات المطروحة بقوة أن السبب هو سلسلة من الغزوات والهجمات قام بها «شعوب البحر» المجهولون. ولكن في عام 2010 أشارت إحدى الدراسات التي عنيت بتحليل الرواسب النهرية في سوريا إلى حدوث فترة طويلة من الجفاف ما بين عام 1200 و850 قبل الميلاد، أي في نفس توقيت الفترة التي عُرفت بالعصور الإغريقية المظلمة. وفي وقت سابق من هذا العام، حلل براندون دريك العديد من التسجيلات المناخية وتوصل إلى حدوث انخفاض في درجة حرارة مياه البحر المتوسط في نفس ذلك الوقت؛ مما قلل من عملية التبخر وهطول الأمطار فوق مساحة شاسعة من الأرض.إضافة إلى ذلك فإن فترة انهيار الحضارة المايسينية شهدت انهيار العديد من الحضارات الأخرى التي تمركزت حول البحر المتوسط ومنها الإمبراطورية الحيثية، و«الدولة الحديثة» في مصر، فيما عرف بظاهرة انهيار العصر البرونزي المتأخر. هل تعذر على شعوب هذه الحضارات كلها التكيف مع تغيرات المناخ؟ أم أن هجمات شعوب البحر كانت هي المشكلة الحقيقية التي واجهتهم؟ ربما تكون القصة معقدة: الحضارات التي أضعفها الجوع ربما كانت أكثر عرضة للغزاة الذين يمكن أن تكون هجرتهم هم أنفسهم بسبب التغيرات المناخية، أو ربما كان لانهيار إحدى الحضارات تأثيرات ضارة على شركائها في التجارة أدت إلى الإطاحة بهم.
ربما تكون التغيرات المناخية التي حدثت على نطاق أوسع هي السبب في تلك المصادفة المثيرة للدهشة. في عام 900 ميلادية تقريبًا، وبينما كانت حضارة المايا تتراجع في أمريكا الجنوبية، بدأت سلالة أسرة تانج تفقد سيطرتها على الصين. بلغ عدد رعايا هذه الأسرة في أوج عظمتها ما يفوق خمسين مليون شخص. ويدلل وجود حروف مطبوعة على كتل الخشب على أن الكلمات المكتوبة وخاصة الشعر كانت في متناول قطاع عريض من الناس. ولكن أسرة تانج سقطت بعد أن اغتصب الحكام المحليون السلطة منها.
وبما أنه لم تكن هناك شراكة تجارية بين هاتين الحضارتين، فلم يكن سقوط إحداهما سببًا في سقوط الأخرى. بينت دراسة على ترسبات البحيرات في الصين أجراها جيرالد هوج أن هذه المنطقة شهدت فترة طويلة من الجفاف في نفس الوقت الذي عم الجفاف فيه أمريكا الوسطى. يعتقد هوج أن السبب في ذلك هو حدوث تغير في حزام المطر الاستوائي مما أدى إلى انهيار الحضارات على جانبي المحيط الهادئ (مجلة نيتشر، مجلد 445، صفحة 74).
ولكن معارضي هذه النظرية يشيرون إلى نماذج لحضارات تعرضت لتغيرات مناخية دون أن تنهار. يقول جاري فاينمان، عالم الآثار بالمتحف الميداني في شيكاغو: «هناك معلومات موثقة عن حدوث فترات جفاف، بل حتى مجاعات خلال عهد إمبراطورية الآزتك، وقد تسببت هذه الأحداث في حدوث أزمات وربما أدت إلى حدوث مجاعات، ولكنها لم تحدث انهيارًا تامًّا.»
أدرك ديفيد زانج، الباحث بجامعة هونج كونج، أن دراسات الحالة التي أجريت عن الحضارات التي انهارت لا يمكن أن تحل هذا الجدل الدائر حولها، لذا بدأ يبحث عن نماذج أشمل. بدأ زانج بتاريخ السلالات التي حكمت الصين، فمنذ عام 2500 قبل الميلاد وحتى القرن العشرين، خضعت الصين لحكم مجموعة من الإمبراطوريات القوية، مثل تانج، وانتهى حكم كل منها بسبب الاضطرابات الأهلية أو الغزوات الخارجية.
عندما قارن زانج السجلات المناخية على مدار الألف والمائتي سنة الماضية بالجدول الزمني للحروب التي خاضتها السلالات الحاكمة للصين جاء التوافق مذهلًا. معظم الفترات الانتقالية التي عاصرتها السلالات الحاكمة وفترات الاضطرابات الأهلية حدثت عند انخفاض درجات الحرارة إلى أعشار قليلة من الدرجة المئوية، في حين شهدت الفترات الأكثر دفئًا قدرًا أكبر من الاستقرار والرخاء (النشرة العلمية الصينية، مجلد 50، صفحة 137).
حرب الثلاثين عامًا
كوّن زانج تدريجيًّا صورة أكثر تفصيلًا بينت أن برودة الجو تزامن معها انخفاض معدلات إنتاج المحاصيل وعدد السكان، وكثرت الحروب. فمن بين الخمس عشرة حربًا التي درسها زانج، وقعت اثنتا عشرة منها في الأوقات الأكثر برودة. ثم تفحص زانج أيضًا السجلات الخاصة بالحروب التي وقعت في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا ما بين عامي 1400 و1900، فوجد أن فترات انخفاض درجات الحرارة شهدت حروبًا أكثر. وشهدت الفترات الأكثر برودة عددًا أكبر من الوفيات وانخفاضًا في عدد السكان.تشير هذه الدراسات إلى أن المناخ قد يكون له تأثيرات بالغة على المجتمعات، ولكن المشكلة تكمن في إثبات هذه الفكرة. إذن ماذا لو كانت الحروب وانهيار الحضارات تتزامن في الغالب مع حدوث تغيرات في المناخ؟ لا يثبت هذا أن أحد الأمرين يؤدي إلى الآخر. يقول بيتر ديمينوكال: «هذا دائمًا هو وجه الاعتراض، وهي وجهة نظر صائبة تمامًا.»
في محاولة منه للتوصل إلى شيء يتجاوز مجرد وجود علاقة ارتباط بين الأمرين، بدأ زانج في دراسة تاريخ أوروبا منذ عام 1500 وحتى عام 1700 ميلادية. ففي منتصف القرن السابع عشر، واجهت أوروبا «الأزمة العامة» التي تزامنت مع فترة أكثر برودة عُرفت بفترة العصر الجليدي الأصغر. في هذه الفترة نشبت حرب الثلاثين عامًا والكثير من الحروب الأخرى. حلّل زانج سجلات مفصلة عن كل شيء بدءًا من السكان والهجرة وحتى المحاصيل الزراعية والحروب والمجاعات والأوبئة في محاولة منه للتعرف على العلاقات السببية فيما بينها. فهل أثرت التغيرات المناخية مثلًا على إنتاج المحاصيل الزراعية، ومن ثم على أسعار الغذاء؟ هذا بدوره ربما يؤدي إلى مجاعة — تتجلى في انخفاض متوسط طول قامة البشر — وأوبئة وانخفاض في عدد السكان. وربما يتسبب ارتفاع أسعار الغذاء في حدوث هجرة واضطرابات في المجتمع أو حتى في اندلاع الحروب.
ثم أجرى زانج تحليلًا إحصائيًّا يعرف باختبار جرانجر للسببية الذي أظهر أن الأسباب المطروحة حدثت على نحو ثابت قبل الآثار التي قُدمت في الدراسة، وأن كل سبب منها كان يتبعه نفس الأثر. لا يعد اختبار جرانجر دليلًا دامغًا على حدوث السببية، ولكن في ظل غياب إمكانية إعادة عرض التاريخ على ذات النحو الذي جرى به في ظل الظروف المناخية المختلفة، ربما يكون هذا أفضل دليل موجود (بروسيدينجز أوف ذي ناشيونال أكاديمي أوف ساينسز، مجلد 108، صفحة 17296).
لم تسلم الدراسة بالطبع من الانتقادات، فمثلًا قال عنها بوتزر إنها مبنية على بيانات ديموغرافية غير موثوق بها. ولكنها أثارت إعجاب آخرين مثل بيتر ديمينوكال الذي وصفها قائلًا: «إنها بحق دراسة رائعة. ويبدو أن القائمين عليها أدوا ما عليهم من عمل.» وأضاف قائلًا إن التحليل التفصيلي لأسباب انهيار المجتمعات أمر ممكن فقط للتاريخ الحديث، لأن الحضارات الأقدم لم تترك سوى القليل من السجلات.
وبالرغم من أن الدراسات القادمة ستكشف لنا المزيد عن الكيفية التي تغير بها المناخ في الماضي، فسيظل الجدل حول حجم التأثيرات التي تركتها هذه التغيرات على المجتمعات آنذاك دائرًا لمزيد من العقود. دعونا نفترض أن التغيرات المناخية لعبت دورًا مهمًّا في حياة المجتمعات، ماذا يعني ذلك لنا؟
ظاهريًّا، لا يبدو الأمر سيئًا للغاية، فغالبًا كان الانخفاض في درجات الحرارة هو الذي يلحق الأذى بالحضارات القديمة. بالإضافة إلى أن الدراسات التي تناولت القرن الماضي توصلت إلى أن هناك علاقة طفيفة، إن وجدت من الأساس، بين الصراعات وتغير المناخ. يقول يورجن شيفران، بجامعة هامبورج، الذي يدرس آثار تغير المناخ: «إن المجتمعات الصناعية تتمتع بقوة أكبر في مواجهة تغيرات الظروف المناخية.»
من ناحية أخرى، نحن نشهد أشد التغيرات تطرفًا على مدار ملايين السنين، والشيء الذي يبدو مهمًّا هو إنتاج الغذاء وليس درجة الحرارة. فمن المتوقع أن يزيد إنتاج الغذاء في البداية مع زيادة درجة حرارة الكوكب، ولكنه يبدأ في التراجع عندما يتجاوز مقدار الزيادة في درجة الحرارة ثلاث درجات مئوية. لا تبدو هذه المرحلة بعيدة، فمن المحتمل أن تزيد درجة الحرارة على سطح كوكب الأرض بمقدار أربع درجات مئوية مع حلول عام 2060. وقد رأينا من قبل كيف يتأثر الإنتاج الإقليمي للغذاء سلبًا بالموجات الحرارية الشديدة مثلما حدث في روسيا عام 2010، ولم يكن من المتوقع أن تبلغ درجات الحرارة هذا الحد قبل وقت متأخر من هذا القرن.
إن ارتباط العالم بعضه ببعض ليس في كل الأحوال موطنًا من مواطن القوة، فمن الممكن للصدمات أن تنتقل عبر هذا الارتباط. فقد تسببت الموجات الحرارية العالية التي ضربت روسيا عام 2010 في ارتفاع أسعار الغذاء عالميًّا، وهو نفس ما نتج عن الجفاف الذي اجتاح أمريكا هذا العام. إن التشابك المتزايد الذي يتسم به المجتمع الحديث لا يقلل من احتمالات الانهيار، بل يجعلنا أكثر عرضة له.
ولكننا نتمتع بميزة كبرى لم تتح لمن قبلنا، فنحن، على عكس مجتمع المايا والشعب المايسيني، نعرف ماذا سيحدث، ويمكننا أن نعد العدة لمواجهته أو نُبطئ من معدل التغيير إذا تحركنا بسرعة. ولكننا حتى هذه اللحظة لم نتخذ أي خطوة من الخطوتين.
حضارة الخمير
كانت بدايات إمبراطورية الخمير، التي تمركزت فيما يعرف الآن بكمبوديا، في عام 802
ميلادية. وبنى شعب هذه الإمبراطورية في القرن الثاني عشر معبدًا رائعًا للإله فيشنو
عُرف بمعبد أنجكور وات.
أثبتت الاكتشافات أن معبد أنجكور وات ليس هو البناء الوحيد الذي أنتجته هذه الحضارة،
كما كان يُعتقد لوقت طويل، ولكنه كان يقع في قلب مدينة تعج بالسكان امتدت ألف كيلومتر
مربع وأحاطت بها ضواحٍ أكبر حجمًا. ربما كانت أنجكور هي أكبر مدن العالم قبل الثورة
الصناعية. ولكن في عام 1431 تعرضت هذه المدينة للسلب والتدمير وهجرها أهلها فيما عدا
المعبد الذي كان البوذيون قد سيطروا عليه.
ما الذي جعل الخمير يتركون عاصمتهم؟ يقول برندان باكلي بجامعة كولومبيا في نيويورك إن
التغيرات التي طرأت على الرياح الموسمية الجالبة للأمطار كانت أحد العوامل المؤثرة.
اعتمد باكلي على الحلقات الموجودة بجذوع الأشجار ليحصل على سجل سنوي لهطول الأمطار من
عام 1250 إلى عام 2008، واكتشف أن معدل هطول الأمطار المعتمدة على الرياح الموسمية كان
ضعيفًا في الفترة ما بين منتصف وأواخر القرن الرابع عشر، ثم تلا ذلك في أوائل القرن
الخامس عشر، أي قبل سقوط أنجكور، فترة جفاف اتسمت بالشدة مع أنها لم تدم طويلًا. شهدت
أيضًا سنوات قلائل في هذه الفترة عودة الأمطار الموسمية بقوة مما تسبب في فيضانات
عارمة.
ومثل الكثير من مجتمعات جنوب آسيا، اعتمد الخمير على الأمطار الموسمية في ري
محاصيلهم، وكانت القنوات والخزانات تنقل الماء إلى المزارع والبيوت الموجودة في أنجكور.
ولكن امتلأ معظمها الآن بالرمال والحصى اللذين حملتهما الفيضانات، وعرض باكلي الرواسب
في قناة واحدة على الأقل تعود إلى عصر انهيار الخمير. هذا التلف ربما يكون قد جعل
التحكم في إمدادات المياه أكثر صعوبة، في الوقت الذي كانت فيه هذه الإمدادات محدودة ولا
يمكن التنبؤ بها.
شعب الموش
ازدهرت حضارة الموش وشيد شعبها المدن بمحاذاة ساحل بيرو ما بين عامي 300 و500
ميلادية. بنى مزارعو الموش شبكة من قنوات الري وأنتجوا الذرة والفاصوليا البيضاء،
وكانوا يفخرون بوجود أكبر مبنى من الطوب في الأمريكتين على أرض عاصمتهم وهو معبد هواكا
ديل سول.
بعض الأشخاص كانوا عمالقة بالنسبة لزمانهم إذ بلغ طولهم 180 سنتيمترًا، وكان بعضهم
يشتركون في شعائر الاحتفالات حيث يقومون بدور «المحاربين الراكعين» الذين يقدمهم
الأهالي قرابين للآلهة. ولكن حضارة الموش بدأت في التراجع بعد عام 560. وقبيل هجر الموش
للمدن الساحلية وتحركهم نحو الداخل في عام 600 تقريبًا، غمرت الكثبان الرملية قنوات
الري التي حفرها المزارعون.
ربما يكون السبب وراء تراجع هذه الحضارة هو التغيرات المناخية، إذ تشير الدراسات التي
أجريت على عينات من الثلوج إلى حدوث هطول غزير للأمطار وفيضانات في ذلك الوقت بسبب دورة
قوية من دورات إل نينو (وهي ظاهرة مناخية عالمية، حيث يؤثر تغير الحرارة في أحد
المحيطات على الجو بمنطقة أخرى بعيدة)، تبعتها فترة طويلة من الجفاف الشديد.