الجغرافيا
ليست معلومات مسطرة عن الدول والبلدان ، وهي ليست خرائط تضاف الى الكتب لزيادة
حجمها ولتضفي عليها لقبها ، انها موجودة معنا حيث نعيش ، في البيت و الـمحلة و
القرية والـمدينة والبلد والعالم والكون .
إنها الـهواء والـماء والأرض والإنسان و النجوم . إنها ما يفكر به الجميع سواء
اكانوا مـختصين بالجغرافيا ام لا . فجميع قراراتنا اليومية ذات بعد مكاني ،
والجغرافيا هي دراسة التباين الـمكاني لكل متطلبات الحياة .
لقد بدأت الجغرافيا وجودها كمعرفة
وكعلم في الـميدان (ولازالت) ، ولكن عشاق الغرف الـمغلقة قتلوا أعـز شيء فيها ،
(جوهرها العملي التطبيقي) ، بـجعلها حبيسة الجدران ، سامـحهم الله على فعلتهم هذه . والأدهى
والأمر ان اجيالآ قد تعودت على ظلمة الغرف ولم تـخرج الى الـميدان لترى الجغرافيا
في وضح النهار في الجوار . لقد جعلت السفرات العلمية للتنزه والنظر الى الطبيعة دون استجلاء معانيها
الجغرافية . تعرفت على الجغرافيا في القاعة وتـجاهلتها خارجها نتيجة قصور في
التوجيه والتدريب الـمنهجي و العلمي .
ان تدريس الجغرافيا بصيغة معلومات تـحفظ
ذهنيا دون تلمسها ميدانيا لا يفقدها
قيمتها كعلم فقط ، بل يـجعلها عقيمة لا حاجة لاضافتها الى الـمواد الدراسية لأنها
مضيعة لوقت التلاميذ و الطلبة وضياع جهد الـمعلمين والـمدرسين . وفي الواقع ان هذه
الطريقة من التعليم شائعة في الدول النامية فقط ، اما في الدول الـمتقدمة فيعد
التدريب العملي و الـميداني جزء اساسيا من البرنامج التعليمي ومن صلب متطلبات نيل
شهادة الدراسة الثانوية . ونظرا لجهل العديد من حملة الشهادات العلمية العليا ، (في الدول النامية) ، اساسيات العمل
الـميداني ، لذا فقد جاء تدريس الجغرافيا
في جامعاتها امتدادا لسياقات تعليمها في الثانوية . تعليم مقصور وغير ناجز ، وحيث لا يليق باستاذ الجامعة ان
يـخـرج الى الحقل وتتسخ ملابسه وتقل هـيبـته .
ويزداد الأمر سوء بكتابة بـحوث معمقة لنيل شهادة عليا يشار فيها
الى قيام الطالب بدراسة ميدانية ، وعند مناقشته تتضح الاخطاء الفادحة التي وقع بها
جراء الجهل في قواعدها وأسـسها ، واتباعه اسهل الطرق في تسطير معلومات يصعب التحقق
من صحتها و دقتها ، مـما يؤدي الى الغاء
أية فائدة مرجوة من دراسته . فالبدايات خاطئة ، والـمـدخلات غير صحيحة
وبالتالي النتائج مرفوضة بكل ضوابط مناهج البحث العلمي . ولكن الشهادة تـمنح ،
ويقوم حاملها بالتدريس في الجامعة وفق السياقات الخاطئة التي تعودها ، وقد يـحصل
على موقع قيادي لسبب ما ، وحينها يكون سادنا على (باب العلم) الذي لا يعرف منه الا
النزر اليسير .
لقد جاء هذا الـمؤلف نتيجة الـمعايشة
اليومية للمشكلة الـمشار اليها في اعلاه ، انه مقترح دليل قد يساعد الـمعلمين والـمدرسين والباحثين في
انـجاز الاعمال الجغرافية من تعليم و بـحث بصورة افضل من الحال الراهن . ومـما
يؤكد ان العالم الآخر قد سبقنا في هذا الـمضمار وتـجاوز الـمرحلة التي لازلنا
نتخبط فيها ، هو قدم الـمصادر الـمعتمدة
لندرة الكتابات الحديثة في موضوع الدراسات الـميدانية .
ركزت الكتابات الحديثة على تقنيات التحسس النائي وليس التلمس
الـميداني ، و لكي نتحسـس عـلينـا أن نتلمـس أولآ . وقد لا يعرف البعض ، ان فهم
نتائج التحسـس النائي مبني على الـملاحظة والدراسة الـميدانية . فكيف نتحسـس عن
بعد الارض التي نعيش عليها قبل أن نتلمسها ونلاحظها عن قرب ؟ انهما وجها عملة
واحدة هدفها استيعاب ما يـجري في البيئة التي نعيش فيها . ولقد عادت دورة العلم
الى الدراسة الـميدانية التي لم نبدأها بعد .
ومن أجل تـحقيق نقلة نوعية في فهم
الجغرافيا وتدريسها بالصورة العلمية الصحيحة ، من الضروري ان تكون البداية : دراسة جغرافية الـمدرسة نفسها ، موقعها ،
مـخططها ، توزيع سكن طلبتها ، مهن ذويهم ، مصدر الـماء ، ...... الخ (كل ما يتعلق
بالبيئة الـمحلية طبيعيا وبشريا لجلب انتباه التلميذ اليها والى العلاقة بينها
واهمية كل منها) . وأن لا نتطير عندما تتسخ الكتب من تراب الـمدرسة والـمحلة اثناء
الربط العملي بين الـمعلومات الـمنضدة في الكتب والواقع الـمعاش . فالعلم لا
يرتبط بالياقات البيض ، بل بالعمل
والتفكير الـمنهجي الـمنظم .
أرى من واجبي ، كجغرافي يعاني من نقص
في الـمكتبة العربية ، وخلل في مناهج تدريس الجغرافيا ، ان اقدم مقترحات لتطوير
واقع الجغرافيا ، علما ومنهجا دراسيا .
1
- الـمـقـترح الأول : تضع
العديد من اقسام الجغرافيا في الجامعات
مادة للتدريس تـحت عنوان "أقليم خاص" كموضوع لطلبة الدراسات العليا او كموضوع
اختياري لطلبة الشرف . وبـما ان لكل جامعة اقليمها الوظيفي الخاص بها ، لذا توجب عليها دراسته بعمق و تفصيل .
الـمقترح
ان يكون موضوع الاقليم الخاص مرتبطا بالاقليم الوظيفي للجامعة ويشترك في
تدريسه اكثر من استاذ واحد ، كل ضمن اختصاصه . وبالتاكيد فان الجانب العملي
والدراسة الحقلية هما القاسم الـمشترك بين جميع فروع الجغرافيا لكي يفهم الطلبة
الصلة الحقيقية بين العوامل البشرية والطبيعية
في الاقليم . او بعبارة أدق ، استيعاب جوهر الجغرافيا وفلسفتها من خلال
دراسة الاقليم الخاص . من الضروري عند اقرار تدريس الـموضوع ، وضع خطة للدراسة
الـميدانية تتوافق مع مفردات الـمنهج ، وان يكون الجانبين النظري والعملي متلازمين
بدون فاصلة زمنية تؤثر على تكاملهما
والهدف من تدريس الـموضوع .
2
- الـمقـترح الثانـي : تطويرا
للمقترح الأول ، واستكمالآ للفائدة من تطبيقه ، وبعد تدريس الاقليم الخاص لسنتين
على الاقل ، من الضروري تأليف كتاب بعنوان " الجغرافيا العملية لأقليم
..... Practical
Geography for Region " . يشمل
هذا الكتاب تفاصيل العمل الـميداني و متطلباته مع مستلزمات التوضيح من مـخططات
ورسوم وصور وخرائط . ومن الضروري جدا ان يضم مـجموعة من الاسئلة مع كل مستلزم
توضيحي ، وتـمارين عملية في نهاية كل فصل ، وايضا مقترحات لدراسات تكميلية مع
تـحديد مواقعها . الـهدف توفير مرجع علمي عن الاقليم ، ودليل عمل لـمدرسي
الجغرافيا في ثانويات الاقليم ليقوموا بدورهم بتدريب طلبتهم على دراسة الجغرافيا
ميدانيا . و بتغطية جميع تراب البلد بدراسات جغرافية عملية ميدانية تطبيقية ، عندئذ تعاد كتابة جغرافية القطر بصيغة جديدة
تكون اكثر فائدة من مـجرد معلومات منضدة
للحفظ والاستظهار في الامتحان . في هذه
الحالة تكون الشهادة في الجغرافيا ذات قيمة و معنى وطني ، ويكون لـموضوعها صدى
وقبول في نفوس الجميع .
3
- الـمقـترح الثالث : وضع
مرشد او دليل عمل لـمعلمي و مدرسي الـمواد الاجتماعية في الثانويات يساعدهم في
القيام بـممارسات عملية مـيدانية تطبيقية لـما ياخذه طلبتهم في الـمنهج الدراسي
ولكل سنة من سنوات الدراسة الثانوية . وفي الوقت نفسه من الضروري ان توفر مديريات
التربية مستلزمات الدراسة الـميدانية ، بـما فيها اماكن الاقامة (مـخيمات كشفية و
مراكز شباب ومراكز خدمة اجتماعية في الريف) ، وخرائط وادوات قياس واجهزة مـختبرية
وغيرها . وان يقوم الـمشرفون التنربويون بـمتابعة التنفـيذ مـباشـرة .
4
- الـمقـترح الـرابع : أن تضم كتب الجغرافيا الـمنهجية (مدن ،
جيمورفولوجيا ، ... الخ) تفاصيل عن أسـس الدراسة الـميدانية ذات العـلاقة و
مستلزماتها . وأن تتحدد مفردات العمل الـميداني وبرمـجته لكل موضوع ومادة منهجية
في بداية كل فصل دراسي ، واعطائها الاهمية التي تستحقها . يؤشر التقصير من عدمه في الجانب العملي الـميداني في هذه
الـمواد درجة جدية التدريسي في تدريب
طلبته على الربط بين النظرية والتطبيق ، بين الواقع الـمحلي والتنظيرات
الـمستوردة ، ويعتمد هذا في التقييم
السنوي لاداءه الوظيفي .
5 - الـمقـترح الخامـس :
تعمد
الكثير من اقسام الجغرافيا الى توجيه طلبتها لكتابة بـحوث لنيل الشهادة الجامعية
الاولية . وهذه مـمـارسة عملية مـمتازة تربط بين مـجموعة من الـموضوعات التي درسها
الطالب ، مثل : الاحصاء والتقنيات الكمية ، مناهج البحث العلمي ، موضوع البحث .
وتاتي هنا اهمية ان تكون الدراسة ذات طابع مـحلي
بـمـمارسة ميدانية صحيحة وفق
السياقات الاصولية . ويفضل ان تكون للقسم العلمي خطة بـحثية متكاملة يقوم التدريسيون بتنفيذها من خلال مشاريع بـحوث
طلبة السنة النهائية . أي ، وضع برنامج علمي لـمسح ميداني شامل للاقليم الوظيفي
للقسم والجامعة .
6
- الـمقترح السادس : من الضروري
جدا ان يكون في الـمكتبة الشخصية لكل جغرافي (بغض النظر عن الـمهنة التي يـمارسها
: تعليم ، تـخطيط ، .... الخ) كتاب يرجع اليه حيثما يـحتاج الى مـمارسـة عـملية
لاختصاصه . والكتاب الراهن لا يفي بالغرض ، لأسباب كثيرة ، الـمطلوب ان يشمل
الكتاب الـمقترح الـموضوعات الاتية :-
(1) مـبادىء الـمساحة العملية البسيطة ،
(2) قراءة مـختلف انواع الخرائط وسبل تـحديث
معلوماتها ،
(3)
مبادىء الجغرافيا العملية ،
(4)
مبادىء دراسة مظاهر سطح الارض ،
(5)
تقنيات مسح استعمالات الارض الحضرية والريفية ،
(6)
الأسـس العلمية لأخذ العينات و معالجتها ،
(7)
تقنيات تـحليل التربة ميدانيا ومـختبريا ،
(8)
التقنيات الكارتوكرافية لـمعالجة البيانات الـمختلفة (سكان ، نشاط اقتصادي ، ....
الخ) ،
(9)
تقنيات تقييم كفاءة الخدمات العامة ، شبكة النقل وغيرها ،
(10)
تقنيات تـحليل الانـماط الـمكانية لتوزيع الـمستقرات البشرية ,
(11)
الربط بين التحسس النائي والتلمس الـميداني والاستفادة من جميع التقنيات ذات
العلاقة لفهم
مايـجري على سطح الارض ومظهرها الطبيعي والذي صنعه الانسان .
من الضروري ان يشترك في تاليف هذا الـمرجع
الـمهم عدد من الـمختصين في فروع الجغرافيا الـمختلفة ، وان يكون غنيا بكل ما يوضح
خطوات العمل واجراءاته و مستلزماته . وليكن تـحت عنوان : موسوعة الدراسة
الـميدانية في الجغرافيا ، ولتتحمل الجامعة العربية ، امانة مـجلس الجامعات
العربية ، اتـحاد الجغرافيين العرب ، منظمة التربية والعلوم ، أو أية مؤسـسـة
تعتقد ان من واجبها الوطني والقومي والعلمي اصدار مثل هذا الـمؤلف .
7
- الـمقـترح السابع : اضافة مـادة دراسية تـحت عنوان "
الجغرافيا العملية والـميدانية " تدرس فيها مـفردات الكتاب الـمشار اليه في
الـمقترح السابق . وفي حالة وجود الكتاب فانه يعتمد منهجيا لهذه الـمادة . ومن
الـمهم جـدا أن لا يبقى تدريس ماهو ميداني حبيس القاعة بل ان يـخـرج الى مكانه
الاصلي ، الى حيث ينتمي ويترعرع ، الى حيث يتنفس الطلبة الصعداء بعيدا عن رائحة
الجدران الـمقرفة ، الى حيث يتعلمون بانفسهم دون اعطائهم جرعات (العلم) بالـملعقة
كدواء غير مـستسـاغ الطعم و الرائحة .
بتوفر مراجع عن الدراسة الـميدانية في الـمكتبات ، يكون لزاما على الباحثين
اعتماد الاسـس العلمية الصحيحة في دراساتهم وبـحوثهم ، وتصبح الفائدة مـمكنة من
الكم الهائل من البحوث والدراسات لتوفر
عناصر الثقة في نتائجها . وبتدريب طلبة الجامعات على تقنيات الدراسة الـميدانية ،
وتوفير مستلزمات القيام بها ، يصبح حامل الشهادة الجامعية الاولية في الجغرافيا
مؤهلآ لخدمة بلده بصورة صحيحة من خلال اختصاصه ، وتكون البيئة التي يعمل فيها
مـختبره و الاطلس الذي يعتمده في حياته الـمهنية و اليومية . في هذه الحالة تزداد
احتمالات وضع نظريات علمية من الواقع ولا حاجة لاستيرادها ، ويكون للتعلم لذة و
راغبين ، ويتداعى الخوف من الامتحان ، وتقل احتمالات الغش فيه . التعود على الغش
اخطر الامراض الاجتماعية التي يتعلمها الابناء من الـمدرسة . فقد اتـجـه الطلبة
الى الغش لاجبارهم على حفظ معلومات لا يفقهون كنهها ، بينما في الـميدان يكتسبون
الـمعرفة ذاتيا ، لذا يعتزوا ويتمسكوا بها
، لقد اخذوها ولم تعط لهم . فطريقة التعلم الخاطئة لها انعكاساتها السلبية الخطيرة
على مستقبل البلاد . وما نعيشه من تدني في الـمستوى العلمي مثال حي لـهذه الحقيقة
الـمرة . واللـه ولـي التـوفـيـق .
أ.د. مـضـر خـليل العـمر
قسم الجغرافيا - كلية التربية - جامعة تكريت
ايلول
(سبتمبر) / 1999