تكاد
تأتي جميع مياهنا العذبة من مستودعات جوفيَّة غير واضحة، والآن تخبرنا
الأقمار الاصطناعية والنظائر المشعة كم لدينا من مياهٍ لسد حاجتنا.
حافة الماء. |
على
أعماق غائرة في بطن شرق الصحراء الكبرى، كان خزان مياه الحجر الرملي
النوبي في خطر؛ ففي مطلع العقد الأول من الألفية الجديدة، كان الخزان — وهو
أحد أكبر وأقدم مستودعات المياه الجوفيَّة في العالم، ويغذي ليبيا ومصر
وتشاد والسودان — ينفد بسرعة. كانت مصر تستغل ماء الخزان كي تغذي مدنها
الصحراوية المتنامية البعيدة عن النيل، وكانت ليبيا — التي لا تملك مصدرًا
آخر للماء سوى الماء المالح للبحر المتوسط — تسحب المياه عن طريق شبكة
أنابيب جوفيَّة وقنوات اصطناعية تُعرف باسم «النهر الصناعي العظيم»، الذي
يصفه الليبيون بأنه أعجوبة الدنيا الثامنة.
سرعان ما أخذت واحات الصحراء الكبرى في الجفاف؛ مما تسبَّب في نقص المياه اللازمة لمجموعات البدو والحياه البريَّة، لكن لم يمكن تحديد المسئول؛ فنظام الخزان القديم كان غاية في التعقيد، وكان من المستحيل أن تحدد بالضبط الطرفَ الذي يُفرط في استهلاك المياه، أو حتى تقدِّر متى ستنفد.
ولأنه لم تكن أي من الدول تثق في أن الدول الأخرى ستقدم تحليلًا حياديًّا؛ لم يمكن لإحداها الوصول إلى اتفاق بشأن أي خطوات تتخذها لحماية الخزان، إذا كانت ستتحرك من الأساس، وهدد انعدام الثقة وقلة التعاون بالتدهور إلى ما هو أسوأ.
كشف الصراع عن حقيقة بسيطة كانت منسيَّة بشكل ما، وهي أن معظم مياه الشرب في العالم مستترة تحت الأرض، وليس لدينا خيط يرشدنا إلى ما يحدث لها، لكن مع زيادة تعداد سكان العالم وظهور آثار تغير المناخ، أصبح هناك شيء واحد مؤكد، وهو أننا لم نعد نستطيع الاعتماد على أن الماء سيكون متوفرًا حيثما نتوقع أن نجده؛ فمياهنا الجوفية تتبدد في المحيط حيث تُهدر بمعدلات مهولة وتتلوث على نحو يتعذر تغييره، في الوقت الذي تحتدم فيه الادعاءات بأحقية ما تبقى. ولن يمر وقت طويل قبل أن يسبب العجز في المياه وقوع الجفاف على نطاق واسع وتبدأ حرب المياه الأولى.
كيف لنا أن نحُول دون وقوع هذا؟ الخطوة الأولى هي أن نعرف أين الماء؛ فلم تعد الخرائط التقليدية كافية عند التعامل مع هدف متحرك غير مرئي، لكن هناك أمل يلوح في الأفق؛ إذ تبدأ وسائل الفيزياء والهندسة الحديثة والمذهلة في تقديم أول صور واضحة عن مياه العالم المستترة، وقد كشفت بالفعل عن بعض الأخبار الرائعة غير المتوقَّعة، غير أن نجاحها الحقيقي يكمن في إمكانية وضع خريطة للعالم لمصدر أثمن من النفط، وهو الماء.
على الرغم من أن هذه الخريطة تشمل ٩٧٪ من مياه العالم العذبة المتاحة — حسب آخر تقدير لبرنامج الأمم المتحدة البيئي — فإننا حقًّا لم نكلف أنفسنا قَطُّ عناءَ الحصول على صورة واضحة للمياه الموجودة تحت أقدامنا. يؤثر معظم علماء الهيدرولوجي دراسة المياه الموجودة على سطح الأرض. يقول بيتر جليك عالِم المناخ المائي الذي يدير «معهد المحيط الهادي» أحد بيوت الخبرة المستقلة في أوكلاند بكاليفورنيا: «قطعًا عانت المياه الجوفية من مشكلة (البعيد عن العين، بعيد عن الخاطر).»
سيندهش معظم الناس لدى سماع هذا؛ فرغم كل شيء كان من السهل استخدام المياه المستترة في الطبقات الجوفية؛ فهذه الخزانات الجوفية شاسعة للغاية. على سبيل المثال، تتجاوز المياه الموجودة في طبقة المياه الجوفية (أو خزان) جواراني بأمريكا الجنوبية — والتي تصل إلى أربعين ألف كيلومتر مكعب — إجمالي المياه الموجودة في كافة البحيرات العظمى بأمريكا الشمالية بكثير، غير أن هذه المياه لا تتجمع في بحيرة جوفية كبيرة، إنما تتحرك عادةً ببطء عبر طبقات معقدة من الصخور المسامية، والرمال والعوامل الجيولوجية الأخرى. وعلى خلاف البحيرة، لا يتوقف مدى نفعها على كم ما بها من ماء فحسب، وإنما أيضًا على مدى سرعة إعادة امتلائها بمياه الأنهار أو الجليد الذائب.
ولكي نكتشف كمَّ الماء الذي يمكن أن نحصل عليه على الدوام من مثل هذا النظام الهش، لا بد أن نعرف شيئين: عمر الماء، وسرعة إعادة امتلائه.
حتى عهد قريب كانت الطريقة الوحيدة للحصول على هذه النوعية من البيانات هي دراسات «بئر السبر» المكلِّفة والمُهدرة للوقت، وتتضمن هذه الدراسات حفر الكثير من الآبار الضيقة لرصد سرعة واتجاه تدفق الماء، ثم استخدام هذه البيانات من أجل إنشاء نموذج للطبقة الجوفية.
بيد أنه في حال الخزان النوبي، كانت هذه الدراسة مستحيلة، ومن أسباب هذا أنها ستكون باهظة التكلفة، وكثير من مواقع الحفر ستكون في الصحراء النائية. غير أن الأهم من هذا أن مثل هذه الدراسات المكثفة تتطلب ميلًا سياسيًّا يحركها، ولمَّا قوبلت دراسات بئر السبر السابقة برِيبة؛ فإن شبكة مكثفة من آبار السبر في أنحاء البلدان الأربع ستكون صعبة التبرير.
مع ذلك، جاء الحلُّ من جهة غير متوقعة، من وكالة الطاقة الذرية الدولية (المعروفة اختصارًا آي إيه إي إيه)؛ فإلى جانب عملها في مجال الطاقة الذرية والأسلحة، تستخدم الوكالة أيضًا النظائر المشعة لتحليل الماء. دأب براديب أجاروال (مدير قسم هيدرولوجيا النظائر المشعة في الوكالة) على استخدام النظائر لاختبار المياه السطحية طيلة عقود، ووجد فرصة لمساعدة الخزان النوبي؛ ففي عام ٢٠٠٦ أطلق أجاروال وتشينج-تيان لو (الفيزيائي بمختبر أرجون الوطني بولاية إلينوي) مشروعًا كبيرًا بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ووكالات أخرى من أجل تصميم خريطة شاملة للخزان. فاختبار النظائر ليس فقط أرخص بكثير؛ لأنه لا يقتضي سوى أخذ عينات قليلة من الماء من الآبار الموجودة، ولكن هذه العينات القليلة تكفي للكشف عن حالة الخزان بأكمله. يقول أجاروال: «يمكن أن يخبرنا قياس النظائر في بقعة واحدة بما يحدث على بُعد عشرات بل ومئات الكيلومترات.»
وقد احتاجا أن يكتشفا أولًا عمر الخزان، ومن أجل هذا الغرض لجأ الفريق إلى الكربون-١٤. وعلى غرار الملاحظات العلمية القديمة، يمكن تحديد عمر الماء باستخدام هذا النظير المشع، فيمتص الماء الموجود فوق سطح الأرض بعض الغازات من الجو — بما فيها ثاني أكسيد الكربون — مما يجعله يصطبغ بصبغة الجو المشبعة بمزيج من النظائر، وعندما يختفي الماء في وقت لاحق ليذهب إلى إحدى الطبقات الجوفية؛ فإنه يصطحب معه هذه الصبغة الفريدة، وبمرور الوقت يخضع كربون-١٤ لتحلُّل إشعاعي، والكمية المتبقية في إحدى عينات الماء يمكنها أن تكشف عن عمر الماء.
اتضح أنه لم يتبقَّ فعليًّا كربون-١٤ في عيناتهم، ودلَّ هذا على أن المياه شديدة القدم.
اتفقت هذه النتيجة مع دراسات الكربون-١٤ السابقة، التي رجحت أن عمر الخزان النوبي ٤٠٠٠٠ سنة. غير أن أجاروال أدرك أن هذا الرقم اقترب من حدِّ التأريخ الذي يبلغ ٥٠٠٠٠ سنة، مما أثار الشكوك بشأن دقة هذه النتيجة؛ لذا لجأ إلى الكريبتون-٨١ — وهو نظير مشعٌّ نادر تعلم الباحثون مؤخرًا فحسب كيفية التقاطه وحسابه — الذي يستطيع أن يحدد على وجه الدقة عمر الماء الذي يعود إلى مليوني سنة، واكتشف تشينج-تيان لو أن دراسات الكربون-١٤ كانت مخطئة إلى حدٍّ بعيد؛ إذ يقترب عمر قدر كبير من الماء في الخزان النوبي من المليون عام.
لكن معرفة عمر الماء وحده لم تكن كافية، وللإلمام بصورة كاملة عن الخزان احتاج أجاروال أن يعرف هل أُعيد امتلاء أي جزء منه بمياه جديدة.
فعل الفريق هذا عن طريق دراسة نظيرين من الذرات يكوِّنان جزيء الماء، وهما الديوتيريوم والأكسجين-١٨. تحوي كل قطرة من الماء نسبة موحية من هذين النظيرين؛ مما يوفر خيوطًا تشير إلى المناخ عند مصدر المياه. ينخفض كِلَا هذين النظيرين الثقيلين في المناخات الأكثر برودة؛ ومن ثَمَّ ستوحي العينة ذات التركيز المنخفض من الأكسجين-١٨ والديوتيريوم أن آخر مرة تجمعت فيها مياه جديدة كان المناخ بالقرب من الخزان النوبي أكثر برودة.
وكما هو متوقع، أكدت عينات الديوتيريوم والأكسجين-١٨ أنه ما من مياه جديدة تجمعت هناك إبان العصور الحديثة، واحتوى الخزان فقط على «مياه حفرية» احتُجزت تحت سطح الأرض لفترة طويلة. بعبارة أخرى، لم يُعَدْ ملء الخزان، ويومًا ما سوف يجف.
كانت هذه الأخبار سيئة، بيد أن أجاروال استطاع بفضل دراسات النظائر أن يحسب إجمالي المياه المتبقية في الخزان. قد تكون تلك المياه قديمة، لكن اتضح أن هناك ما يكفي من هذه المياه الحفرية ليدوم لقرون عديدة على أقل تقدير. ليس هذا فحسب، لكن المياه تتدفق ببطء شديد حتى إنَّ سحب أحد البلدان لا يؤثر مباشرة في بلد آخر. يقول أجاروال: «من ثَمَّ ليس على تشاد أن تقلق من سرقة ليبيا لمياهها.»
في أعقاب النتائج التي توصلت إليها وكالة الطاقة الذرية الدولية، أخيرًا اتفقت البلدان المعتمدة على الخزان النوبي أنها في حاجة إلى العمل معًا من أجل حمايته؛ مما أنهى توترًا دام لعقد من الزمان. يقول أجاروال: «استطعنا أن نكوِّن نموذجًا يمكن الاعتماد عليه قبلت به البلدان الأربع.» وأكملت الوكالة تقريبًا أطلس العالم الذي يضم العملَ الذي قاموا به في خزان الصخر الرملي النوبي، وفي النهاية يأمل أجاروال أن يعد خريطة توضح المياه الجوفية في العالم بناء على العمر ومعدل إعادة الامتلاء (انظر الخريطة).
لكن لا شيء من هذا يمكن أن يفيد أيًّا من الواحاتِ المحلية الآخذة في الجفاف، ومعها أيضًا إحدى البحيرات في ليبيا، ويُعزى هذا إلى أن التوترات السياسية ليست المشكلة الوحيدة التي تنطوي عليها قضية المياه في العالم.
حتى عندما تغذي طبقة جوفية بلدًا واحدًا فقط، لا يتضح دائمًا من الذي يستخدم المياه أو لأي غرض يستخدمها. يقول جليك: «لطالما كنا نُفْرِطُ في سحب المياه الجوفية ونحن على دراية بذلك لعقود من الزمان، غير أن السياسات لا تزال غير قادرة على التعامل مع الأمر.» وللحصول على تقرير شامل عن استخدام المياه الجوفية، ينبغي للدول والقطاعات أن تقيس معدل استخدامها الفعلي وغير المباشر للمياه الجوفية، وهو الأمر الذي لا يفعله إلا قليلون.
توصل الآن جاي فاميليتي وفريقه بجامعة كاليفورنيا بمدينة إرفاين إلى طريقة لتجنب هذا؛ وذلك عن طريق تعقب التغيرات الفورية التي تطرأ على المياه الجوفية بالعالم من الفضاء، ولفعل هذا يعتمدون على بيانات من «القمر الصناعي المزدوج لتغطية حقل الجاذبية واختبار المناخ» التابع لناسا الذي يقيس التنوع في مجال جاذبية الأرض، وتستخدم التجربة قمرين صناعيين يدوران على بُعد نحو ٢٢٠ كيلومترًا من بعضهما البعض، وعندما يحلق القمر الأول فوق منطقة جاذبية أشد — وليكن مثلًا فوق جبل أو طبقة جوفية عملاقة — فإنه يقترب مؤقتًا من الأرض ويبتعد عن القمر الصناعي الذي يتعقبه، وبقياس التغيرات في المسافة بين القمرين، يمكنهما رسم خريطة مفصلة لمجال جاذبية الأرض.
لم تقف مجموعة فاميليتي عند هذا الحد، بل استطاعوا أن يربطوا بين بيانات الجاذبية الصادرة عن القمرين الصناعيين وبين تغيُّرات هامة تطرأ على الطبقات الجوفية بسبب المواسم الرطبة والجافة، وفترات الجفاف الطويلة، واستخراج المياه من أجل التعدين أو الزراعة.
يصمم فاميليتي الآن — شأنه شأن أجاروال — خريطة عالمية تستند إلى المعلومات التي جمعها من تجربة القمر الصناعي المزدوج، والنتائج التي توصل إليها تستدعي التفكير بجدية؛ فنحن نستنزف كافة الطبقات الجوفية الرئيسية بالعالم الواقعة عند خطوط العرض الوسطى، وكما هو الحال في كاليفورنيا، المتهم الرئيسي هو الزراعة التي تستهلك كميات هائلة من المياه.
والزراعة ليست القطاع الوحيد المصحوب بالآثار السيئة. يقول فاميليتي وفريقه إنه قد تشير خريطتهم إلى استنزاف خطير للمياه الجوفية في مناطق التعدين في أستراليا، ويضيف: «أجل، نعرف أن التعدين يتطلب قدرًا هائلًا من المياه، لكن هل عرض عليهم أحد من قبلُ خريطة مثل هذه؟ كلا.» يلعب أيضًا التفاوت في سقوط الأمطار دورًا، مع أن فريق فاميليتي لا يزال عليه أن يحدد حجم هذا الدور على وجه الدقة، لكن الأمر المؤكد هو أن المياه تتحرك. يقول فاميليتي: «عندما ترى هذه البقعة الحمراء الكبيرة التي تغطي خُمس أو سُدس القارة، فإنها ستثير دهشتك.»
يستطيع القمر الصناعي المزدوج أن يتعقب فحسب التغيُّرات في الطبقات الجوفية التي تتجاوز مساحاتها ١٥٠٠٠٠ كيلومتر مربع. ومع ذلك، فإن الجمع بين النتائج الصادرة عن القمر الصناعي المزدوج وبين الحسابات العمرية التي توصلت إليها دراسات النظائر سيقدم تقديرًا تقريبيًّا لإجمالي كمية المياه في الطبقة الجوفية موضع الدراسة. يقول فاميليتي إننا إذا فعلنا هذا مع كل الطبقات الجوفية، فسوف نحصل على أول صورة توضيحية لكَمِّ المياه العذبة المخزنة تحت الأرض، وإلى أين تذهب. والأكثر من ذلك أنه قد تتيح لنا هذه المعلومات التنبؤ بوقوع عجز في الموارد المائية، ربما مع التحذير الكافي للبلدان كي تخفف من الآثار المترتبة على هذا العجز أو حتى منعها تمامًا.
لا تزال هذه النوعية من المشاريع في بدايتها، ينفِّذ أحدَها أحد تلامذة فاميليتي السابقين في الدراسات العليا، ويُدعى مات روديل، والذي يحلل بيانات مياه الولايات المتحدة في وكالة ناسا. أثبتت مجموعة روديل في ديسمبر أن الجفاف الذي لم يحدث له مثيل من قبلُ في تكساس — وهو أكثر فترة شهدتها تكساس منذ تسعينيات القرن التاسع عشر جفافًا (وتبلغ اثني عشر شهرًا) — قد قلل مناسيب المياه الجوفية في مناطق عدة من الولاية لتصل إلى أدنى منسوب لها طيلة ٦٠ عامًا. وكان توقُّعهم بأن إعادة ملء الخزان ستستغرق شهورًا كافية لتحفيز الولاية على تطوير وسائل أكثر فعالية للحفاظ على المياه.
في بعض الحالات — على سبيل المثال — من الممكن التصدي للجفاف من خلال إعادة ملء الطبقة الجوفية صناعيًّا بمياه فضلات مطهَّرة كي تظل ممتلئةً، وقد فعلت كاليفورنيا هذا طيلة عقود. وتجرب مصر اتباع نفس الوسيلة في جزء ضحل حديث العهد من الخزان النوبي من خلال تغذيته بمياه من النيل.
إذا استطعنا تحقيق فهم شامل كافٍ لمياه العالم، فلربما يحدث القليل من المفاجآت السارة؛ فعلى الرغم من أن العثور على كميات كبيرة من المياه العذبة الجديدة غير محتمل، فإنه من الممكن أن تكشف مثل هذه الخريطة عن موارد صغيرة. في شبه جزيرة سانتا إيلينا الجافة التي تقع بالإكوادور — على سبيل المثال — كان لدى سكانها ثلاث آبار فحسب تمدهم بالمياه على نحو متقطع، لكن بعد دراسة النظائر التي قامت بها وكالة الطاقة الذرية الدولية عام ٢٠٠٩، حفر السكان أربع آبارٍ مستديمة توفر لهم المياه على مدار اليوم. وفي بنجلاديش، حيث كان الزرنيخ الموجود في الماء يصيب ملايين الأفراد بالتسمم، حددت أبحاث النظائر خزانات لم تكن معروفة من قبل وكانت مياهُها صالحة للشرب.
لن تعيد الخرائط وحدها ملءَ الواحات في الصحراء بالماء، لكنها مفتاح للتأكد من أن جميعها لديه ما يكفي من المياه. وفي النهاية، لن يكون منع الصراعات حول الماء متعلقًا بالكميات المحددة من المياه قدر ما سيكون مرتبطًا بالتوزيع العادل لما هو متاح. وتتمثَّل الخطوة الأولى في معرفة أين تذهب المياه ومن الذي يأخذها. وحتى وسط كل الأخبار السيئة، ثَمَّةَ بارقة أمل؛ ففيما ينتبه المزيد من البلدان — من كندا إلى الهند إلى أستراليا — للمشكلة ويبدءون في تعقب مياههم المستترة، تتطور الوسائل التي من شأنها أن تساعدهم في فعل ذلك.
سرعان ما أخذت واحات الصحراء الكبرى في الجفاف؛ مما تسبَّب في نقص المياه اللازمة لمجموعات البدو والحياه البريَّة، لكن لم يمكن تحديد المسئول؛ فنظام الخزان القديم كان غاية في التعقيد، وكان من المستحيل أن تحدد بالضبط الطرفَ الذي يُفرط في استهلاك المياه، أو حتى تقدِّر متى ستنفد.
ولأنه لم تكن أي من الدول تثق في أن الدول الأخرى ستقدم تحليلًا حياديًّا؛ لم يمكن لإحداها الوصول إلى اتفاق بشأن أي خطوات تتخذها لحماية الخزان، إذا كانت ستتحرك من الأساس، وهدد انعدام الثقة وقلة التعاون بالتدهور إلى ما هو أسوأ.
كشف الصراع عن حقيقة بسيطة كانت منسيَّة بشكل ما، وهي أن معظم مياه الشرب في العالم مستترة تحت الأرض، وليس لدينا خيط يرشدنا إلى ما يحدث لها، لكن مع زيادة تعداد سكان العالم وظهور آثار تغير المناخ، أصبح هناك شيء واحد مؤكد، وهو أننا لم نعد نستطيع الاعتماد على أن الماء سيكون متوفرًا حيثما نتوقع أن نجده؛ فمياهنا الجوفية تتبدد في المحيط حيث تُهدر بمعدلات مهولة وتتلوث على نحو يتعذر تغييره، في الوقت الذي تحتدم فيه الادعاءات بأحقية ما تبقى. ولن يمر وقت طويل قبل أن يسبب العجز في المياه وقوع الجفاف على نطاق واسع وتبدأ حرب المياه الأولى.
كيف لنا أن نحُول دون وقوع هذا؟ الخطوة الأولى هي أن نعرف أين الماء؛ فلم تعد الخرائط التقليدية كافية عند التعامل مع هدف متحرك غير مرئي، لكن هناك أمل يلوح في الأفق؛ إذ تبدأ وسائل الفيزياء والهندسة الحديثة والمذهلة في تقديم أول صور واضحة عن مياه العالم المستترة، وقد كشفت بالفعل عن بعض الأخبار الرائعة غير المتوقَّعة، غير أن نجاحها الحقيقي يكمن في إمكانية وضع خريطة للعالم لمصدر أثمن من النفط، وهو الماء.
على الرغم من أن هذه الخريطة تشمل ٩٧٪ من مياه العالم العذبة المتاحة — حسب آخر تقدير لبرنامج الأمم المتحدة البيئي — فإننا حقًّا لم نكلف أنفسنا قَطُّ عناءَ الحصول على صورة واضحة للمياه الموجودة تحت أقدامنا. يؤثر معظم علماء الهيدرولوجي دراسة المياه الموجودة على سطح الأرض. يقول بيتر جليك عالِم المناخ المائي الذي يدير «معهد المحيط الهادي» أحد بيوت الخبرة المستقلة في أوكلاند بكاليفورنيا: «قطعًا عانت المياه الجوفية من مشكلة (البعيد عن العين، بعيد عن الخاطر).»
سيندهش معظم الناس لدى سماع هذا؛ فرغم كل شيء كان من السهل استخدام المياه المستترة في الطبقات الجوفية؛ فهذه الخزانات الجوفية شاسعة للغاية. على سبيل المثال، تتجاوز المياه الموجودة في طبقة المياه الجوفية (أو خزان) جواراني بأمريكا الجنوبية — والتي تصل إلى أربعين ألف كيلومتر مكعب — إجمالي المياه الموجودة في كافة البحيرات العظمى بأمريكا الشمالية بكثير، غير أن هذه المياه لا تتجمع في بحيرة جوفية كبيرة، إنما تتحرك عادةً ببطء عبر طبقات معقدة من الصخور المسامية، والرمال والعوامل الجيولوجية الأخرى. وعلى خلاف البحيرة، لا يتوقف مدى نفعها على كم ما بها من ماء فحسب، وإنما أيضًا على مدى سرعة إعادة امتلائها بمياه الأنهار أو الجليد الذائب.
بيئات طبيعية جافة
يوضح عدد كبير من الخرائط مكان الطبقات الجوفية الموجودة في العالم، غير أن هذه الخرائط لا تأتي على ذكر كَمِّ الماء الذي تحتوي عليه الطبقات، أو سرعة تغيُّر مناسيب المياه، أو حتى صلاحية الماء للشرب؛ فمع زيادة تعداد سكان العالم يزيد الطلب على المياه، لكن هذا ليس السبب الوحيد للمخاوف؛ فالتغير المناخي يعيد تدريجيًّا توزيع مياه العالم. وفيما ترتفع درجة حرارة الكرة الأرضية، يتحول الترسيب من خطوط العرض الوسطى إلى خطوط العرض الدنيا والعليا، وتصبح المناطق الرطبة أكثر رطوبة، والجافة أكثر جفافًا؛ مما قد يعلل الجفاف الذي فاق كل الحدود في شرق أفريقيا وتكساس العام الماضي. وتعني قلة الأمطار عند خطوط العرض الوسطى نقص المياه الجديدة اللازمة لإعادة ملء الطبقات الجوفية الآخذة في النفاد بأسرع ما يمكن، ويعني هذا أن المزيد من الطبقات الجوفية ستصير مثل الخزان النوبي: مصدرًا غيرَ مستقرٍّ وسط بيئة طبيعية جافة.ولكي نكتشف كمَّ الماء الذي يمكن أن نحصل عليه على الدوام من مثل هذا النظام الهش، لا بد أن نعرف شيئين: عمر الماء، وسرعة إعادة امتلائه.
حتى عهد قريب كانت الطريقة الوحيدة للحصول على هذه النوعية من البيانات هي دراسات «بئر السبر» المكلِّفة والمُهدرة للوقت، وتتضمن هذه الدراسات حفر الكثير من الآبار الضيقة لرصد سرعة واتجاه تدفق الماء، ثم استخدام هذه البيانات من أجل إنشاء نموذج للطبقة الجوفية.
بيد أنه في حال الخزان النوبي، كانت هذه الدراسة مستحيلة، ومن أسباب هذا أنها ستكون باهظة التكلفة، وكثير من مواقع الحفر ستكون في الصحراء النائية. غير أن الأهم من هذا أن مثل هذه الدراسات المكثفة تتطلب ميلًا سياسيًّا يحركها، ولمَّا قوبلت دراسات بئر السبر السابقة برِيبة؛ فإن شبكة مكثفة من آبار السبر في أنحاء البلدان الأربع ستكون صعبة التبرير.
مع ذلك، جاء الحلُّ من جهة غير متوقعة، من وكالة الطاقة الذرية الدولية (المعروفة اختصارًا آي إيه إي إيه)؛ فإلى جانب عملها في مجال الطاقة الذرية والأسلحة، تستخدم الوكالة أيضًا النظائر المشعة لتحليل الماء. دأب براديب أجاروال (مدير قسم هيدرولوجيا النظائر المشعة في الوكالة) على استخدام النظائر لاختبار المياه السطحية طيلة عقود، ووجد فرصة لمساعدة الخزان النوبي؛ ففي عام ٢٠٠٦ أطلق أجاروال وتشينج-تيان لو (الفيزيائي بمختبر أرجون الوطني بولاية إلينوي) مشروعًا كبيرًا بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ووكالات أخرى من أجل تصميم خريطة شاملة للخزان. فاختبار النظائر ليس فقط أرخص بكثير؛ لأنه لا يقتضي سوى أخذ عينات قليلة من الماء من الآبار الموجودة، ولكن هذه العينات القليلة تكفي للكشف عن حالة الخزان بأكمله. يقول أجاروال: «يمكن أن يخبرنا قياس النظائر في بقعة واحدة بما يحدث على بُعد عشرات بل ومئات الكيلومترات.»
وقد احتاجا أن يكتشفا أولًا عمر الخزان، ومن أجل هذا الغرض لجأ الفريق إلى الكربون-١٤. وعلى غرار الملاحظات العلمية القديمة، يمكن تحديد عمر الماء باستخدام هذا النظير المشع، فيمتص الماء الموجود فوق سطح الأرض بعض الغازات من الجو — بما فيها ثاني أكسيد الكربون — مما يجعله يصطبغ بصبغة الجو المشبعة بمزيج من النظائر، وعندما يختفي الماء في وقت لاحق ليذهب إلى إحدى الطبقات الجوفية؛ فإنه يصطحب معه هذه الصبغة الفريدة، وبمرور الوقت يخضع كربون-١٤ لتحلُّل إشعاعي، والكمية المتبقية في إحدى عينات الماء يمكنها أن تكشف عن عمر الماء.
اتضح أنه لم يتبقَّ فعليًّا كربون-١٤ في عيناتهم، ودلَّ هذا على أن المياه شديدة القدم.
اتفقت هذه النتيجة مع دراسات الكربون-١٤ السابقة، التي رجحت أن عمر الخزان النوبي ٤٠٠٠٠ سنة. غير أن أجاروال أدرك أن هذا الرقم اقترب من حدِّ التأريخ الذي يبلغ ٥٠٠٠٠ سنة، مما أثار الشكوك بشأن دقة هذه النتيجة؛ لذا لجأ إلى الكريبتون-٨١ — وهو نظير مشعٌّ نادر تعلم الباحثون مؤخرًا فحسب كيفية التقاطه وحسابه — الذي يستطيع أن يحدد على وجه الدقة عمر الماء الذي يعود إلى مليوني سنة، واكتشف تشينج-تيان لو أن دراسات الكربون-١٤ كانت مخطئة إلى حدٍّ بعيد؛ إذ يقترب عمر قدر كبير من الماء في الخزان النوبي من المليون عام.
لكن معرفة عمر الماء وحده لم تكن كافية، وللإلمام بصورة كاملة عن الخزان احتاج أجاروال أن يعرف هل أُعيد امتلاء أي جزء منه بمياه جديدة.
فعل الفريق هذا عن طريق دراسة نظيرين من الذرات يكوِّنان جزيء الماء، وهما الديوتيريوم والأكسجين-١٨. تحوي كل قطرة من الماء نسبة موحية من هذين النظيرين؛ مما يوفر خيوطًا تشير إلى المناخ عند مصدر المياه. ينخفض كِلَا هذين النظيرين الثقيلين في المناخات الأكثر برودة؛ ومن ثَمَّ ستوحي العينة ذات التركيز المنخفض من الأكسجين-١٨ والديوتيريوم أن آخر مرة تجمعت فيها مياه جديدة كان المناخ بالقرب من الخزان النوبي أكثر برودة.
وكما هو متوقع، أكدت عينات الديوتيريوم والأكسجين-١٨ أنه ما من مياه جديدة تجمعت هناك إبان العصور الحديثة، واحتوى الخزان فقط على «مياه حفرية» احتُجزت تحت سطح الأرض لفترة طويلة. بعبارة أخرى، لم يُعَدْ ملء الخزان، ويومًا ما سوف يجف.
كانت هذه الأخبار سيئة، بيد أن أجاروال استطاع بفضل دراسات النظائر أن يحسب إجمالي المياه المتبقية في الخزان. قد تكون تلك المياه قديمة، لكن اتضح أن هناك ما يكفي من هذه المياه الحفرية ليدوم لقرون عديدة على أقل تقدير. ليس هذا فحسب، لكن المياه تتدفق ببطء شديد حتى إنَّ سحب أحد البلدان لا يؤثر مباشرة في بلد آخر. يقول أجاروال: «من ثَمَّ ليس على تشاد أن تقلق من سرقة ليبيا لمياهها.»
في أعقاب النتائج التي توصلت إليها وكالة الطاقة الذرية الدولية، أخيرًا اتفقت البلدان المعتمدة على الخزان النوبي أنها في حاجة إلى العمل معًا من أجل حمايته؛ مما أنهى توترًا دام لعقد من الزمان. يقول أجاروال: «استطعنا أن نكوِّن نموذجًا يمكن الاعتماد عليه قبلت به البلدان الأربع.» وأكملت الوكالة تقريبًا أطلس العالم الذي يضم العملَ الذي قاموا به في خزان الصخر الرملي النوبي، وفي النهاية يأمل أجاروال أن يعد خريطة توضح المياه الجوفية في العالم بناء على العمر ومعدل إعادة الامتلاء (انظر الخريطة).
لكن لا شيء من هذا يمكن أن يفيد أيًّا من الواحاتِ المحلية الآخذة في الجفاف، ومعها أيضًا إحدى البحيرات في ليبيا، ويُعزى هذا إلى أن التوترات السياسية ليست المشكلة الوحيدة التي تنطوي عليها قضية المياه في العالم.
حتى عندما تغذي طبقة جوفية بلدًا واحدًا فقط، لا يتضح دائمًا من الذي يستخدم المياه أو لأي غرض يستخدمها. يقول جليك: «لطالما كنا نُفْرِطُ في سحب المياه الجوفية ونحن على دراية بذلك لعقود من الزمان، غير أن السياسات لا تزال غير قادرة على التعامل مع الأمر.» وللحصول على تقرير شامل عن استخدام المياه الجوفية، ينبغي للدول والقطاعات أن تقيس معدل استخدامها الفعلي وغير المباشر للمياه الجوفية، وهو الأمر الذي لا يفعله إلا قليلون.
توصل الآن جاي فاميليتي وفريقه بجامعة كاليفورنيا بمدينة إرفاين إلى طريقة لتجنب هذا؛ وذلك عن طريق تعقب التغيرات الفورية التي تطرأ على المياه الجوفية بالعالم من الفضاء، ولفعل هذا يعتمدون على بيانات من «القمر الصناعي المزدوج لتغطية حقل الجاذبية واختبار المناخ» التابع لناسا الذي يقيس التنوع في مجال جاذبية الأرض، وتستخدم التجربة قمرين صناعيين يدوران على بُعد نحو ٢٢٠ كيلومترًا من بعضهما البعض، وعندما يحلق القمر الأول فوق منطقة جاذبية أشد — وليكن مثلًا فوق جبل أو طبقة جوفية عملاقة — فإنه يقترب مؤقتًا من الأرض ويبتعد عن القمر الصناعي الذي يتعقبه، وبقياس التغيرات في المسافة بين القمرين، يمكنهما رسم خريطة مفصلة لمجال جاذبية الأرض.
لم تقف مجموعة فاميليتي عند هذا الحد، بل استطاعوا أن يربطوا بين بيانات الجاذبية الصادرة عن القمرين الصناعيين وبين تغيُّرات هامة تطرأ على الطبقات الجوفية بسبب المواسم الرطبة والجافة، وفترات الجفاف الطويلة، واستخراج المياه من أجل التعدين أو الزراعة.
خريطة جديدة جذرية
نشر الفريق عام ٢٠١١ دراسة مدهشة ومثيرة للجدل توضح أن خزانًا رئيسيًّا أسفل سنترال فالي بكاليفورنيا آخذ في استنفاد مخزونه على نحو أسرع من المتوقع، بسبب مزارع الخس المتعطشة للمياه، وأخبر فاميليتي العام المنصرم مجلة «نيو ساينتيست» أنه إذا استمرت حالة الزراعة غير المنضبطة فإن الخزان سيجف بحلول عام ٢١٠٠.يصمم فاميليتي الآن — شأنه شأن أجاروال — خريطة عالمية تستند إلى المعلومات التي جمعها من تجربة القمر الصناعي المزدوج، والنتائج التي توصل إليها تستدعي التفكير بجدية؛ فنحن نستنزف كافة الطبقات الجوفية الرئيسية بالعالم الواقعة عند خطوط العرض الوسطى، وكما هو الحال في كاليفورنيا، المتهم الرئيسي هو الزراعة التي تستهلك كميات هائلة من المياه.
والزراعة ليست القطاع الوحيد المصحوب بالآثار السيئة. يقول فاميليتي وفريقه إنه قد تشير خريطتهم إلى استنزاف خطير للمياه الجوفية في مناطق التعدين في أستراليا، ويضيف: «أجل، نعرف أن التعدين يتطلب قدرًا هائلًا من المياه، لكن هل عرض عليهم أحد من قبلُ خريطة مثل هذه؟ كلا.» يلعب أيضًا التفاوت في سقوط الأمطار دورًا، مع أن فريق فاميليتي لا يزال عليه أن يحدد حجم هذا الدور على وجه الدقة، لكن الأمر المؤكد هو أن المياه تتحرك. يقول فاميليتي: «عندما ترى هذه البقعة الحمراء الكبيرة التي تغطي خُمس أو سُدس القارة، فإنها ستثير دهشتك.»
يستطيع القمر الصناعي المزدوج أن يتعقب فحسب التغيُّرات في الطبقات الجوفية التي تتجاوز مساحاتها ١٥٠٠٠٠ كيلومتر مربع. ومع ذلك، فإن الجمع بين النتائج الصادرة عن القمر الصناعي المزدوج وبين الحسابات العمرية التي توصلت إليها دراسات النظائر سيقدم تقديرًا تقريبيًّا لإجمالي كمية المياه في الطبقة الجوفية موضع الدراسة. يقول فاميليتي إننا إذا فعلنا هذا مع كل الطبقات الجوفية، فسوف نحصل على أول صورة توضيحية لكَمِّ المياه العذبة المخزنة تحت الأرض، وإلى أين تذهب. والأكثر من ذلك أنه قد تتيح لنا هذه المعلومات التنبؤ بوقوع عجز في الموارد المائية، ربما مع التحذير الكافي للبلدان كي تخفف من الآثار المترتبة على هذا العجز أو حتى منعها تمامًا.
لا تزال هذه النوعية من المشاريع في بدايتها، ينفِّذ أحدَها أحد تلامذة فاميليتي السابقين في الدراسات العليا، ويُدعى مات روديل، والذي يحلل بيانات مياه الولايات المتحدة في وكالة ناسا. أثبتت مجموعة روديل في ديسمبر أن الجفاف الذي لم يحدث له مثيل من قبلُ في تكساس — وهو أكثر فترة شهدتها تكساس منذ تسعينيات القرن التاسع عشر جفافًا (وتبلغ اثني عشر شهرًا) — قد قلل مناسيب المياه الجوفية في مناطق عدة من الولاية لتصل إلى أدنى منسوب لها طيلة ٦٠ عامًا. وكان توقُّعهم بأن إعادة ملء الخزان ستستغرق شهورًا كافية لتحفيز الولاية على تطوير وسائل أكثر فعالية للحفاظ على المياه.
في بعض الحالات — على سبيل المثال — من الممكن التصدي للجفاف من خلال إعادة ملء الطبقة الجوفية صناعيًّا بمياه فضلات مطهَّرة كي تظل ممتلئةً، وقد فعلت كاليفورنيا هذا طيلة عقود. وتجرب مصر اتباع نفس الوسيلة في جزء ضحل حديث العهد من الخزان النوبي من خلال تغذيته بمياه من النيل.
إذا استطعنا تحقيق فهم شامل كافٍ لمياه العالم، فلربما يحدث القليل من المفاجآت السارة؛ فعلى الرغم من أن العثور على كميات كبيرة من المياه العذبة الجديدة غير محتمل، فإنه من الممكن أن تكشف مثل هذه الخريطة عن موارد صغيرة. في شبه جزيرة سانتا إيلينا الجافة التي تقع بالإكوادور — على سبيل المثال — كان لدى سكانها ثلاث آبار فحسب تمدهم بالمياه على نحو متقطع، لكن بعد دراسة النظائر التي قامت بها وكالة الطاقة الذرية الدولية عام ٢٠٠٩، حفر السكان أربع آبارٍ مستديمة توفر لهم المياه على مدار اليوم. وفي بنجلاديش، حيث كان الزرنيخ الموجود في الماء يصيب ملايين الأفراد بالتسمم، حددت أبحاث النظائر خزانات لم تكن معروفة من قبل وكانت مياهُها صالحة للشرب.
لن تعيد الخرائط وحدها ملءَ الواحات في الصحراء بالماء، لكنها مفتاح للتأكد من أن جميعها لديه ما يكفي من المياه. وفي النهاية، لن يكون منع الصراعات حول الماء متعلقًا بالكميات المحددة من المياه قدر ما سيكون مرتبطًا بالتوزيع العادل لما هو متاح. وتتمثَّل الخطوة الأولى في معرفة أين تذهب المياه ومن الذي يأخذها. وحتى وسط كل الأخبار السيئة، ثَمَّةَ بارقة أمل؛ ففيما ينتبه المزيد من البلدان — من كندا إلى الهند إلى أستراليا — للمشكلة ويبدءون في تعقب مياههم المستترة، تتطور الوسائل التي من شأنها أن تساعدهم في فعل ذلك.
Géographie General