السبت، 16 نوفمبر 2013

الأشعة الكونية: إشعاع من السماء

في كل لحظة من كل يوم، ينهمر على الأرض وابل من الجسيمات القادمة من الفضاء الخارجي. أحدثت هذه الجسيمات، المعروفة بالأشعة الكونية، ثورة في فهمنا للمادة على المستوى دون الذري.

اكتشاف الأشعة الكونية

 انبهر العلماء بالنشاط الإشعاعي منذ اكتشافه عام ١٨٩٦. ساعدت قدرته على تأيين الهواء على سهولة رصده وأدت إلى اكتشاف مذهل: حتى في غياب أي مصدر للنشاط الإشعاعي، رصدت أجهزة الكشف وجود نوع آخر من الإشعاع يؤدي إلى تأين الهواء. وقد ظهر هذا الإشعاع في البحر أيضًا بالرغم من عدم وجود أي صخور نشطة إشعاعيًّا في مجال الرؤية. علاوةً على ذلك، كان الإشعاع قويًّا جدًّا حتى إنه تمكن من اختراق الواقي المحيط بمعدات المختبر. لا بد أن هناك مصدرًا آخر غير معروف للأشعة، وأن لديه قدرة هائلة على الاختراق، لكن أين هو؟

قدم أول الدلائل على وجود هذه الأشعة ثيودور وولف، الفيزيائي والراهب اليسوعي، الذي صعد برج إيفل ووجد بالأعلى إشعاعًا يفوق توقعاته. ظن وولف أن الأشعة آتية من مصادر فضائية، واقترح فكرة الصعود لارتفاعات شاهقة باستخدام المناطيد لاختبار هذه الفكرة. لكنه تخلى عن روح المغامرة وتركها لآخرين، كان من أبرزهم الفيزيائي النمساوي فيكتور هيس، الذي قام بهذه المخاطرة.

صعد فيكتور 10 مرات خلال عامي 1911 و1912 واكتشف أن شدة الأشعة زادت بسرعة بعد تجاوز ارتفاع 1000 متر. وعلى ارتفاع 5000 متر، كانت شدتها أكبر منها عند مستوى سطح البحر بحوالي خمس مرات. استنتج هيس أن إشعاعًا قويًّا ينشأ في الفضاء الخارجي ويدخل إلى الغلاف الجوي للأرض، لكن كثافته تتلاشى أثناء مروره خلال الهواء.

يُنسب اكتشاف الأشعة الكونية منذ زمن طويل إلى هيس، وقد نال عنه جائزة نوبل للفيزياء عام 1936. أما الاسم الموحي «الأشعة الكونية»، فقد صكه الفيزيائي الأمريكي روبرت ميليكان عام 1965.

في البداية، شك ميليكان في صحة ادعاءات هيس، لكن هذا تغير في عشرينيات القرن الماضي عندما قاس النشاط الإشعاعي بنفسه. اخترع عدادًا كهربائيًّا تُسجَّل قراءاته على شريط فيلمي. وبهذا تمكن من إرسال الجهاز لأعلى داخل منطاد بدون قائد، وامتدت القياسات إلى ارتفاعات شاهقة. وبحلول عام 1926، اقتنع ميليكان بوجود الأشعة الكونية، حتى إنه تمادى ونسب الاكتشاف لنفسه.
تحليل وابل الأشعة

عندما يسقط شعاع كوني مخترقًا طبقة الغلاف الجوي العليا، ينتج عن اصطدامه بذرات الهواء وابل من الجسيمات (انظر الشكل).

تُمتص أغلب جسيمات ذلك الوابل قبل وصولها إلى سطح الأرض. وفي حين يصطدم بكل سنتيمتر مربع من طبقة الغلاف الجوي العليا حوالي ٢٠ جسيمًا كل ثانية في المتوسط، لا يتبقى عند مستوى البحر سوى رذاذ ضئيل؛ جسيم واحد فقط في الدقيقة.

تميل جسيمات مثل البايونات وما يشبهها من الجسيمات التي تستجيب للقوة النووية الشديدة إما إلى أن تُمتَص أو تتحلل إلى إلكترونات وميونات وفوتونات ونيوترينوات ذات قدرة أكبر على الاختراق. تنشئ الجسيمات المشحونة كهربائيًّا وابلًا خاصًّا بها من الإلكترونات والبوزيترونات والفوتونات. وبهذا تتفرق الطاقة الكلية للشعاع الكوني الأصلي بين مكونات تتزايد باستمرار، ولا يصل أغلبها إلى الأرض.

تُستثنى من ذلك الميونات، وهي في الأساس إلكترونات ثقيلة. فهي تستطيع المرور خلال الغلاف الجوي الممتلئ بالذرات وتصل إلى مستوى سطح الأرض، حتى إنها تخترق التربة. إذا زرت معرضًا علميًّا ورأيت غرفة شرر تسجل مرور الأشعة الكونية، فإن ما يطلق الشرار على الأرجح هي الميونات.

النيوترينوات هي الأكثر قدرة على الاختراق، وعادةً ما تخترق الأرض مباشرةً وتخرج من الجانب الآخر. بينما تقرأ هذا، تخرج من تحت قدميك نيوترينوات تنتج عن اصطدام الأشعة الكونية بالجانب الآخر لكوكب الأرض ثم تندفع عبر جسدك. غير أن عددًا أكبر من النيوترينوات ينهمر على رأسك.

في حالات استثنائية جدًّا، قد تزيد طاقة جسيم الشعاع الكوني المنبعث بنحو ١٠ ملايين مرة عن طاقة الأشعة في أقوى معجّل للجسيمات لدينا، وهو «مصادم الهادرونات الكبير» التابع للمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن) بالقرب من جنيف في سويسرا. يمكن أن يتولد عن مثل هذه الطاقة ملايين الجسيمات الثانوية وهذا الانهمار قد ينتشر على مدى كيلومترات عدة. غير أن الوابل يحافظ على الاتجاه الكلي للاندفاع الأساسي. وعن طريق قياس مرات وصول الجسيمات النسبية إلى مواقع عديدة تفصل بينها مسافات شاسعة، يمكن تحديد اتجاه الشعاع الكوني الأولي في إطار بضع درجات.


اكتشاف الجسيمات

في ١٩٢٧، كان دميتري سكوبلتسين، الباحث بمعهد لنينجراد الفيزيائي التقني بالاتحاد السوفييتي، يدرس النشاط الإشعاعي باستخدام غرفة الضباب، وهي جهاز يسمح برؤية الجسيمات غير المرئية. غرف الضباب هي أوعية مغلقة ممتلئة ببخار ماء على وشك أن يتكثف. عندما يندفع جسيم مشحون كالإلكترون خلالها، فإنه يعمل على تأيين البخار، وهذا يسبب تكون قطيرات الماء على طول المسار.

كان سكوبلتسين يستخدم غرفته الضبابية مع مغناطيس قوي يوجّه الإلكترونات بطيئة الحركة نسبيًّا لتتحرك في دوائر متقاربة. وقد لاحظ بالرغم من ذلك أن بعض المسارات كانت مستقيمة تقريبًا، مما يدل على أنها كانت أقوى من أي مصدر معروف في ذلك الوقت. لم يدر أنه بذلك أصبح أول من شاهد مباشرةً مسارات الأشعة الكونية.

بعد ذلك بثلاث سنوات في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في باسادينا، أنشأ كارل أندرسون تلميذ روبرت ميليكان غرفة ضباب تحيط بها أقطاب مغناطيسية قوية للغاية خاصة لدراسة الأشعة الكونية. وقد اندهش كثيرًا عندما وجد أن آثار بعض المسارات كانت تأخذ شكلًا منحنيًا وكأنها إلكترونات ذات شحنة موجبة. وهكذا اكتشف أندرسون البوزيترون، وهو مضاد الإلكترون الذي تنبأ به سابقًا الفيزيائي النظري البريطاني بول ديراك.

لا تُعد البوزيترونات ظاهرة فضائية فريدة. وقد أثبت باتريك بلاكيت وجوزيبي أوكياليني هذا عام ١٩٣٢ عندما اكتشفا أن البوزيترونات تشكل تقريبًا نصف الجسيمات الناتجة عن اصطدام شعاع كوني بصفيحة معدنية داخل غرفة الضباب، ويتشكل النصف الآخر من الإلكترونات.

وبعد ذلك اكتشف أندرسون بالتعاون مع زميل آخر له أن بعض المسارات اخترقت غرفة الضباب بدرجة أكبر من الإلكترونات ولم تولد مثل هذا الوابل. كانت هذه المسارات ترجع إلى جسيم يبدو وكأنه نسخة ثقيلة من الإلكترون. وهكذا اكتُشف الميون.

كان اكتشاف البوزيترون والميون الحلقة الأولى في سلسلة من الاكتشافات التي أثبتت أن الفيزياء المقتصرة على دراسة الأرض لم تتعرض إلا لجانب محدود من المعرض الثري الذي تمتلكه الطبيعة. وبحلول خمسينيات القرن العشرين، كشفت الأشعة الكونية عن المزيد من الجسيمات التي لم تستطع النظريات القائمة تفسيرها.

اكتُشف البايون عام 1947. على الأقل جرى التنبؤ بوجود هذا الجسيم من قبل، لكن اكتُشفت أيضًا مجموعة كبيرة من الجسيمات «الغريبة» التي لم تكن في الحسبان. شهد ذلك العام مزيدًا من اكتشافات الجسيمات الغريبة، مع اكتشاف كل من الكيون واللامدا والإكس آي وسيجما على مدار السنوات الست التالية.

من أجل فهم طبيعة الجسيمات أنشأ الفيزيائيون معجلات الجسميات التي حاكت بشكل عملي تفاعلات الأشعة الكونية لكن تحت ظروف اختبار مُحكمة. وبهذا أدى اكتشاف الأشعة الكونية إلى ظهور مجال فيزياء الجسيمات عالية الطاقة في عصرنا الحديث. 

=========
عثـمان ادشـيـشي